الحج هو أحد العناوين الكبرى في المشروع العبادي السياسي الإلهي إذ تتجلى فيه عظمة الخالق وتتعاظم مسؤولية المخلوق وإذا كان لكل فعل من الأفعال العبادية له معنى مستقل في ذاته يتحقق بإنجاز العبد إياه بين يدي ربه فهو أيضا ً فعل مرتبط بالشأن الإنساني العام
شارک :
وكالة انباء التقريب (تنا) : بمناسبة موسم الحج الإلهي، أقامت جمعية الإمام الصادق (ع) لإحياء التراث العلمائي والمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، ندوة فكرية تحت عنوان : "الفقه المقارن في أحكام الحج أحد أهم تجليات الوحدة الإسلامية من خلال منهج الشهيدين الشيخ محمد بن مكي الجزيني والشيخ زين الدين الجبعي" حضرها جمع من علماء الدين ووفد من تجمع العلماء المسلمين برئاسة الشيخ أحمد الزين، ووفد من جمعية التعليم الديني برئاسة المدير التربوي المركزي الحاج علي مرعي، ورئيس بلدية أنصار على رأس وفد من المجلس البلدي وحشد كبير من المهتمين والفعاليات من أبناء المنطقة. وقد القى الشيخ حسن البغدادي مسؤول ملف إحياء التراث العلمائي في حزب الله كلمة في هذه الندوة, اشار فيها الى ضرورة التركيز على المشتركات العقائدية في اداء مناسك الحج بين المذاهب الاسلامية لانه السبيل الوحيد لتعزيز اواصر التآلف والمحبة بين المسلمين وتحقيق الوحدة بينهم لكي يصبح الحج مظهر من مظاهر عظمة الاسلام وقوة المسلمين والا تحول الى مشروع فتنة وتمزيق . واليكم نص كلمة الشيخ حسن البغدادي :
بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى في كتابه العزيز "وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ". الحج إلى بيت الله الحرام من الأركان الأساسية في الإسلام حيث توعدت النصوص الشريفة النار على مسوّف الحج حتى إذا أدركه الموت فليختر لنفسه أن يخرج من الدنيا على غير دين الإسلام . والحج أحد العناوين الكبرى في المشروع العبادي السياسي الإلهي إذ تتجلى فيه عظمة الخالق وتتعاظم مسؤولية المخلوق وإذا كان لكل فعل من الأفعال العبادية له معنى مستقل في ذاته يتحقق بإنجاز العبد إياه بين يدي ربه فهو أيضا ً فعل مرتبط بالشأن الإنساني العام ،كالصلاة فهي واجب عيني متعلق بأفراد الجنس البشري فتعزز فيهم روح العبودية والإنصياع وتنهاهم عن الفحشاء والمنكر وفي نفس الوقت تدعوهم للإندماج في تكوين مشروع الإنسان على الأرض .
بينما(مشروع الحج) صحيح هو تكليف متعلق بالأفراد شأنه شأن الواجبات العينية إلا ّ أنه لا يمكن إنجازه إلا ضمن إطار الجماعة كونه محكوما ً لمانسك محددة زمانا ً ومكانا ً ،وهذا مظهر من مظاهر عظمة الإسلام وقوة المسلمين، والإنقسام في تأدية هذه المشاعر يكون على خلاف غرض الشارع المقدس من مشروع الحج، وبما أن المسلمين ينتمون إلى مذاهب متعددة كان لا بد ّ من البحث عن آليات تساهم في جمع المسلمين على هذه المشاعر تأكيدا ً على التواصل وتوطيدا ً لأواصر المحبة ،وإلا ّ فبدل أن يكون الحج إطارا ً جامعا ً لوحدة المسلمين يتحول إلى مشروع فتنة وتمزيق لقوى هذه الأمة ،لهذا كان علينا أن ننحو باَتجاه ما ذهب إليه السلف الصالح من الإلتزام (بالفقه المقارن) الذي هو عبارة عن قرائة فقهاء المذاهب لأراء بعضهم البعض حيث يلزم منه البحث بالتوافق على آليات توحد المسلمين على لمّ الشمل وتساعدهم على تأدية مناسكهم بروح المحبة ومظهر الوحدة وبهذا نكون قد أنهينا التخرصات حول ما يذهب إليه المغرضون ولقطع الطريق على إفترائاتهم وبدعهم التي قامت سياستهم عليها .
في الوقت ذاته الفقه المقارن يزيل الضغائن والأحقاد وبقرّب النفوس من بعضها إذ كيف يمكن مناقشة من نعتقد بكفره وضلاله . من هنا نجد في منهج الشهيدين الشيخ محمد بن مكي الجزيني والشيخ زين الدين الجبعي أنهما من أوائل من ذهب إلى دراسة الفقه المقارن ،بما يمثل من توحيد للجهود المشتركة حيث كانا يعتقدان أن تواصل الفقهاء فيما بينهم تزرع ثقة متبادلة التي سينتج عنها المحبة والوحدة بين عموم المسلمين .
فالشهيد الأول الرجل المؤسّس لمشروع النهضة كان همه الأساسي وحدة المسلمين والبحث عن أي شيئ يؤدي إلى لم شملهم فنراه في كتابه الفقهي (الدروس) باب صلاة الجماعة يقول :{ إذا أقيمت جماعتان الأولى بإمامة شيعي والثانية بإمامة سني فالأفضل للمكلف أن يلتحق بجماعة الإمام السني ويتأكد هذا بالمجاورة } هذه الأفضلية تعود لما فيها من تجسيد لمشروع الوحدة الإسلامية التي تشكل العمود الفقري لجسد الأمة ، هذا نموذج من المسار الفقهي والذهنية المنفتحة التي كان يتمتع بها الشهيد وهي التي منعته من العودة إلى مباشرة ً إلى بلدته جزين بعد أن حاز على أعلى درجات الإجتهاد في الحوزة العلمية لمدينة الحلة لإنجاز مشروعه الذي أنجزه لاحقا ً من تشييد للحوزة العلمية وبناء جبل عامل العلمي ،بل ذهب باتجاه عواصم البلدان الإسلامية : العراق _ دمشق _ مصر _ فلسطين _ مكة المكرمة ، ودرس على علمائها حتى أنه قال في إجازته لإبن الخازن الحائري في دمشق : {إنّي قرأت على أربعين شيخا ً من علماء أهل السنة }.
والشهيد الثاني : الذي زار عواصم البلدان الإسلامية واًلتقى علمائها ،ووصل الأمر للقيام بزيارة (إسطنبول) عاصمة الدولة العثمانية والتقى السلطان سليمان بعد ما تعرف إلى قاضي العسكر الذي أعجب به وبغزارة علمه من خلال المباحث العلمية العشرة في العلوم المختلفة التي كتبها في إسطنبول وبدوره القاضي عرّفه إلى السلطان فأعجب أيضا ً به ،وعرض عليه سلسلة وظائف فاَختار الشهيد إدارة المدرسة النورية في مدينة بعلبك ،ولم يكن هذا الإختيار عبثا ً،لقد تخلى عن أجمل قرية وهي (جبع) ليسكن في منطقة أقل ما يقال فيها أنها نائية ،والشهيد يكتب بخطه : ( أننا بقينا في بعلبك أربع سنوات نفتي المسلمين كلا ًطبق مذهبه حتى أصبحنا ملاذا ً للأنام وعاشرنا أهلها بأحسن حال حتى ذهب زمن الأمان ) و كانت المؤامرة التي أرادت أن تستهدف هذه المشاريع الجامعة لوحدة المسلمين مما اَضطر الشهيد من ترك المنطقة والتوجه إلى (جبع) وبعد مضي ثمان سنوات تم إلقاء القبض عليه بالمسجد الحرام واقتيد إلى إسطنبول ليقتل على يدي السلطة عام ٩٦٦ ه .
واستمر على هذا النهج علماؤنا الأبرار فألفوا وكتبوا في الفقه المقارن ومنهم الإمام السيد موسى الصدر الذي أرسل رسالة عام ٦٩ إلى مفتي الجمهورية المرحوم الشيخ حسن خالد يحثه فيها على دراسة معمقة ومسؤولة تبحث في القضايا الفقهية الجامعة لوحدة المسلمين والتي توحّد الجهود المشتركة مثل الحج والأعياد ، إذ أن هذه الأمور تكون أسرع إلى لمّ الشمل وجمع المشاعر ،وهي دعوة صريحة للبحث عن الية تحدّد الوصول إلى بداية الشهر القمري ،كما قال تعالى : {يسألونك عن الأهلة هي مواقيت للناس والحج } فمعرفة بداية الهلال تحلّ مشكلة عيد الفطر والحج للمسلمين ، وهنا يتبين أنّ الفقه المقارن له مدخلية في البحث الجدي عن الية تحدد بداية الشهر القمري من خلال الاَليات الفقهية المعتمدة لدى فقهاء المذاهب الإسلامية .
وبعد البحث والتدقيق عن الية يمكن أن يتفق عليها علماء المذاهب وجدنا الأقرب إلى من يشترط الرؤية البصرية في موضوع الهلال كما ورد في الحديث الشريف (صم للرؤية واَفطر لها ) هي العين المسلحة (الناضور ) المعتمدة في الجمهورية الإسلامية .
فلو بقي كل فريق متمسك برأيه في موضوع إثبات الهلال للزم منه التشتت والتفرقة ، فهناك من ذهب إلى أن الولادة الفلكية من دون إلزامية إمكان الرؤية ، أو الولادة الفلكية مع شرط إمكانية الرؤية لولا المانع ، أو شرط الرؤية البصرية المأخوذة على النحو الموضوعي فهذا يلزم منه التشتت والتفرقة ، وهنا يمكن أن تجمع العين المسلحة بين الإتجاهين ، إلا إذا اَعتبرنا أن الناضور لا ينطبق عليه الرؤية البصرية المباشرة ، ومن الممكن أن نقول أن الناضور لا يكشف المستور كي يكون مخالفا ً لمفهوم الرؤية ، وإنما هو مقرب للمسافة فقط وعلى كلٍ لا بدّ من البحث الجدي عند علماء الدين للوصول إلى هذا الغرض وإلا سنقع بالتشتت في أغلب الأحيان وليس بين السنة والشيعة فقط بل حتى بين المذهب الواحد .
وإذا كان هذا التشتت يلحق الضرر بوحدة المسلمين في عيد الفطر فإن الضرر الأكبر يكون عند تأدية مناسك الحج عند الوقوف في عرفة ويوم العيد ، وهذا ما جعل القسم الأكبر من علماء الشيعة يذهبون على مضض في قبول ما يذهب إليه المفتي السني في بلاد الحجاز من دون أن يلتفت هذا العالم المفتي أن المشاعر تخص جميع المسلمين حتى السنة من خارج المملكة وهذا يلزم بالحد الأدنى تشكيل لجنة تضمّ علماء من كل المذاهب على امتداد العالم الإسلامي كي يشاركو في تنظيم وتحديد أحكام الحج التي على الأقل يشترك فيها جميع المسلمين فهذا يسهل عمل الحجيج ويعزّز من وحدتهم وقوتهم ، والعالم الذي لا يقبل بهذا الإجماع بإمكانه الذهاب باتجاه الإحتياط والطلب من مقلديه الرجوع إلى عالم اَخر في هذه المسألة .
أيها السادة ... في الختام إنّ المخاطر التي تتهدد المنطقة جراء الأطماع الأمريكية الإسرائيلية و خصوصا ً بعد الهزائم التي مني بها هذا المشروع في أفغانستان و العراق و لبنان و فلسطين ، جعله يبحث عن الية لا تأخذه إلى الحرب وتحقق ما كان يصبو إليه أثناء عدوان تموز ٢٠٠٦ م من إيجاد شرق أوسطي جديد يكون خال ٍ من قوى الممانعة إيران وسوريا وقوى المقاومة كي تبقى منطقة الشرق الأوسط مستباحة بالكامل أمام نزواتهم وأطماعهم ،وما المحكمة الدولية إلا ّ السيف المسلط على رقبة هذه القوى لإخضاعها بقبول المشروع الأمريكي في المنطقة ولكن بإذن الله كما هزمنا مشروعهم في لبنان بكل أطيافهم ، سنكشف حقيقة كذب هذه المحكمة أمام اللبنانيين وأمام بقية شعوب المنطقة وهذا ما يهمنا فقط في موضوع المحكمة ، وما حدث بلأمس القريب من حالة عدوانية على العيادة الطبية النسائية في الضاحية الجنوبية ما هو إلا دليل آخر على وحشية هذا المجتمع الدولي وافتقاده لأبسط الأمور الإجتماعية والأخلاقية ، أما أن ترضى أمريكا أو تغضب فهو سيان عندنا ، إذ لم نكن في يوم على وئام معهم وكنا دائما ً في الخط الأمامي نقاوم ونستشهد في سبيل عزة لبنان وكرامة شعبه . في هذا اللقاء أيضا ً ما أحوجنا إلى إجماع علمائي على ما ذهب إليه الإمام السيد الخامنئي من حرمة التعرض لزوجات النبي (ص) ولرموز أهل السنة كي نقطع الطريق على المشروع الأمريكي الإسرائيلي الذي يتهددنا في فتنة سنية شيعية كلما أخفق في مكان مآ مستغلا ًبعض الجهلة والمتأمرين من كل المذاهب .