نجحت المقاومة في استراتيجية الايقاظ ثم الايلام التي تطورت الى اشعاره بالثمن الباهظ و الكلفة العالية التي تفرض عليه في احتلاله او في هجومه ان كان يريد احتلالاً جديداً.
شارک :
وكالة أنباء التقریب (تنا) عندما ارست اسرائيل كيانها العدواني في فلسطين، لم تستند الى شرعية اخلاقية او قانونية تبرر فعلها ، بل استعاضت عن الامرين بمنطق القوة المادية ، و بشرعية المنتصرين في الحربين الاولى و الثانية. و بهذين العنصرين استطاعت ان تحقق الحلم الصهيوني وترسي دعائم "الدولة "، و كان اعداؤها يتراجعون في معظمهم امامها بعد ان يأسوا من تحصيل قوة يضاهون بها القوة العسكرية الاسرائيلية ، و بعد قنوطهم من "عدالة دولية" وهمية قام بينها و بين العدل جفاء و عداء حتى بات مجلس الامن مقبرة للحقوق العربية ، وحائط ذل و بكاء للضعفاء.
و قد توالت عقود والعرب يتقهقرون امام " قوة اسرائيل و شرعيتها المزيفة "، رغم ان بعضهم ابدى من الشجاعة في المواجهة في الميدان احياناً و حقق الانتصارات في معارك معينة ما لايمكن نسيانه و لكن النتيجة في النهاية لم تكن الا لصالح اسرائيل في خطها الصاعد المستند الى عنصري وجودها. و هنا كانت محاولة شعبية لكسر هذه الحلقة التي كلما ازداد الدوران فيها ازدادت الخسائر تفاقماً، فكانت المقاومة الفلسطينية التي اعتبرها البعض عملاً سخيفاً غير مجدي في مواجهة من جعلته السياسة الدولية و على راسها اميركا متفوقا استراتيجيا على كل العرب و بالفعل لم تصل هذه المقاومة الى ما صبت اليه.
وبشكل موضوعي نقول ان المقاومة ضد اسرائيل وفي انطلاقتها الثانية من لبنان كانت مثقلة، بنتائج المقاومة الاولى التي انتهت في العام ١٩٨٢بشكل دراماتيكي تمثل في مشهد جماعات المقاومين الفلسطنيين المجبرين على الرحيل من الميدان حيث حل لبنانيون مكانهم و انطلقت المقاومة اللبنانية ضد اسرائيل متعددة المنطلقات الفكرية و متوحدة على هدف اساس : قتال العدو لتحرير الارض.
مقاومة لبنان بوجه اسرائيل انطلقت من الصفر تقريبا بحجر و زيت مغلي و بعض ما صودف من اسلحة نارية خفيفة ، و لكنها تطورت الى ان اقتنت البندقية و الرشاش و المدفع و الصاروخ و الاجهزة الالكترونية و ارست منظومة قيادة و سيطرة عجز العدو عن خرقها فحازت بذلك القوة التي لا نقول بانها تعادل القوة العسكرية الاسرائيلية بل انها القوة التي تنال منها فتؤلمها، و توقظ الوعي لدى العدو بان في الميدان من يتحرك في مواجهته، و انه قادر على ان يجعله يصرخ. و نجحت المقاومة في استراتيجية الايقاظ ثم الايلام التي تطورت الى اشعاره بالثمن الباهظ و الكلفة العالية التي تفرض عليه في احتلاله او في هجومه ان كان يريد احتلالاً جديداً، و استعيد المشهد في فلسطين في الداخل و كان النجاح.
و بهذه الاستراتيجية كان تحرير جنوب لبنان ثم غزة ، و كان الحؤول دون تحقيق اهداف اسرائيل في حربيها ٢٠٠٦ ، و ٢٠٠٩ . و بعدها تغير الامر حيث يرى البعض ان المقاومة وصلت الان الى الحائط المسدود، بعد ان غابت العمليات الاستشهادية التي زلزلت الامن الاسرائيلي، و ارعبت جنود العدو، كما و توقفت العمليات الميدانية في جنوب لبنان و عبره، و تراجعت في الضفة الغربية و غزة، ما يعني ان المقاومة تحولت الى اسم و فكرة في الاذهان و غابت افعالها المؤثرة في الميدان.
وحول جدوى المقاومة و بقاء سلاحها مع هذا الجمود العملاني بأن لا تكون الاجابة موضوعية برأينا الا عبر الواقع و ما يقدمه الميدان حيث نسجل : ١. قبل المقاومة كانت اسرائيل، تقرر الحرب، ثم تذهب اليها و تعود بما ارادت من مكاسب، ثم تكرسها بقرارات من "مصنع الشرعية الدولية المزيفة "، لتحمي بها ما اغتصبت. اما اليوم فان الامر تغير و فقدت اسرائيل الحرية في قرار الحرب نظرا لعجزها عن تحقيق الانتصار على المقاومة في الميدان و لعجزها عن تأمين الامن لصهاينتها في الداخل بعد ان تصدع امن "الجبهة الداخلية " بصواريخ المقاومة، و بعد ان وعت المقاومة زيف الشرعية الدولية فاحجمت عن الانصياع الاعمى لقرارات اميركا باسم "المجتمع الدولي ". و ما الصورة في جنوب لبنان و قبلها مع القرار ١٥٥٩ ببعيدة عما نقول، و بموضوعية نرى ان المقاومة عطلت الآن قرار اسرائيل بالحرب وكشفت زيف الشرعية الدولية (عنصرا قوة اسرائيل).
٢. قبل المقاومة و سلاحها المتراكم اليوم، لم تكن اسرائيل لتعبأ كثيرا بقدرات الاعداء و صراخهم او تهديداتهم لانها كانت مطمئنة الى تفوقها عليهم جميعاً، لذلك كانت (خاصة بعد صلحها مع مصر) في امان و طمأنينة كلية لوجودها لان سبب وجودها فاعل في عنصريه (القوة و الشرعية المزيفة) اما بوجود المقاومة فقد فقدت اسرائيل الامان النفسي، و عاد القلق على مصير الكيان و شرعيته الى المربع الاول، فتكون المقاومة وبمجرد الوجود افسدت حلم اسرائيل بالامن و الاستقرار .
٣. اما على الاتجاه الاميركي فقد ادت المقاومة وممارستها في المنطقة كفكرة و نهج و ممارسة الى منع اميركا من تحقيق مشروعها الكوني انطلاقا من الشرق الاوسط ، فكسر العنفوان الاميركي و ارغمت اميركا على التخلي عن استراتيجية القوة الصلبة ، و حملت على اعتماد استراتيجية الانكفاء ففقدت هي الاخرى القدرة على قرارات بحروب جديدة و تساوت مع اسرائيل ايضاً في تقييد قرار الحرب .
رغم ان المقاومة بوجه اسرائيل جامدة الان نوعا ما ، لكنها جمدت معها قدرة اسرائيل على الذهاب الى الحرب، و يكون التجميد و التعطيل متبادلين ، حيث نجد مقاومة تملك اليسير من الاسلحة و العتاد، قد توصلت الى تعطيل استعمال الكثير المتطور بيد اسرائيل و افقدتها امنها النفسي و طمأنيتها الوجودية. و على الجبهة الاميركية، منعت المقاومة اميركا رغم ما تملك من سلاح و تقنية منعتها من تحقيق اهداف حروبها اولاً والزمتها بالعدول عن متابعة الحرب ثانياً، اي بكلمة اخرى حملتها على تجميد استعمال قدراتها العسكرية الفائقة و الزمتها بوقف الحروب.
في العلم العسكري هناك قاعدة تقول : "ان استنقاذ المغتصب لا يكون الا بعمل هجومي"، ما يعني ان الحقوق المغتصبة لن تستنقذها السلبية و الجمود المتبادل. وهذا يقود الى القول ظاهراً اننا في وضعنا الراهن لسنا في الطريق الى استعادة المغتصب من الحقوق سواء في فلسطين او جنوب لبنان او الجولان. لكن ليس هذا هو كل الحقيقة اذ اننا بالفكر الكلي و النظرة الشمولية نصل الى خلاف هذا الظاهر. اذ لا يمكن ان نقرأ الوضع في لحظته، بل يجب فهمه بكليته و مقارنته بما مضى و الحكم على قاعدة النسبية.
و هنا نجد ان الواقع القائم يحول دون فقدان حق جديد آخر ما يضع حداً للتوسع الصهيوني من جهة و من جهة اخرى نجد ان انتشار ثقافة المقاومة و تمددها سيعقد مهمة اسرائيل و اميركا في المواجهة. فاذا كانت عناصر وجود اسرائيل و بقائها قد تعطلت (القوة و الشرعية المزيفة)، و قوة اميركا الداعمة قد جمدت، ثم استمرت المقاومة في انتشارها و تراكم قوتها، لتنتقل من استراتيجية تعطيل قوة العدو الحالية الى دفع العدو الى مزالق التآكل و الانتحار مستقبلاً لان النار تأكل ذاتها ان لم تلتهم محيطها، فان الطمأنينة التي كانت لدى اسرائيل، تنتقل اليوم الى صفوف مقاوميها، و بهذا تكون المقاومة الطريق الاستراتجي الاكيد لتجميد العدوان الغربي الصهيوني على المنطقة ثم طرده و من هنا نفهم كيف تعمل اميركا و اسرائيل للتخلص من المقاومة وداعميها لانها الخطر الحقيقي على مشروعهم كله. ____________________ * عقيد ركن لبناني متقاعد.