اعتبار التفاوض والاعتراف والصلح وإقامة دولة فلسطينية في حدود 1967 من الثوابت يصل إلى حدّ العيب والوقاحة. فمن الأفضل لهؤلاء أن يعترفوا بأنهم تخلوا عن الثوابت وإذا كانوا أكثر صدقاً مع النفس ليعترفوا أنهم خانوها جهاراً نهاراً
كثر اللغط حول ما هي ثوابت القضية الفلسطينية، والتي هي ثوابت الشعب الفلسطيني كذلك. فثمة من نسي أو تناسى أصل القضية الفلسطينية وكيف نشأت وما كان الموقف الفلسطيني والعربي والإسلامي من الهجرة اليهودية ما بين ١٩١٧-١٩٤٧ وقد تمت بالقوّة من خلال حماية الاستعمار وحراب جنوده، ثم نسي هؤلاء، أو تناسوا، الموقف من قرار التقسيم رقم ۱۸۱ لعام ۱۹4۷ الجائر الذي أعطى، وبمخالفة لميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي، لنفسه حق تقسيم فلسطين ومنح من هجروا إليها "حق إقامة دولة" لهم على 5% من أرض فلسطين.
ثم وجهّت الضربة الأقسى عندما بدأ الفلسطينيون تدريجاً بالتخلي عن الثوابت التي عبّر عنها ميثاقا (م ت ف) لعامي ۱۹64 و۱۹۶۸ وقد رافق ذلك الضربة التي لا تقلّ قسوة من خلال عقد "المعاهدة المصرية الإسرائيلية". في البداية كان الموقف من قيادة (م ت ف) خجلاً وموارباً وملتبساً في التنازل عن هذا الثابت أو ذاك. ولكن بعد التقدّم بما أسمي بالبرنامج الوطني الفلسطيني بعد تخطيه حتى لبرنامج النقاط العشر وذلك بتحديد الهدف بإقامة دولة فلسطينية في الأراضي المحتلة في الخامس من يونيو/ حزيران ۱۹۶۷، أي ضمن قرار ۲۴۲ ثم الانتقال منه إلى التخلي عن ثابت رفض التفاوض إلى التفاوض والاستعداد للاعتراف بدولة الكيان الصهيوني، كما التخلي عن المقاومة كما عبّر عن ذلك اتفاق أوسلو والرسائل المتبادلة.
وبهذا أصبح المقصود من قبل الذين تخلوا عن ثوابت الميثاق الوطني لعام ۱۹6۸ هو ما يسمّى بالبرنامج الوطني وحلّ الدولتين باعتبار ذلك المقصود بالحفاظ على الثوابت. وهكذا استبعدت الثوابت الأصل لتحلّ مكانها ثوابت مخترعة ما هي بثوابت وإنما هي الخروج الصارخ عن الثوابت، أما من يجادل في هذا فليقرأ ميثاق (م ت ف) وليقرأ منطلقات فتح والبرامج الأولى لكل فصائل المقاومة بلا استثناء.
من هنا فإن اعتبار التفاوض والاعتراف والصلح وإقامة دولة فلسطينية في حدود ۱۹6۷ من الثوابت يصل إلى حدّ العيب والوقاحة. فمن الأفضل لهؤلاء أن يعترفوا بأنهم تخلوا عن الثوابت وإذا كانوا أكثر صدقاً مع النفس ليعترفوا أنهم خانوها جهاراً نهاراً. ومن بعد ذلك فليدافعوا عن موقفهم. ولكن ليس من خلال لعبة التلاعب بالحديث عن الثوابت وبأنهم ما زالوا يتمسكون بها وقد تخلوا عن الأراضي المغتصبة في عام ۱۹4۸. ثم تخلوا عن خطوط الهدنة لعام ۱۹4۸/۱۹4۹ (خطوط ما قبل الخامس من يونيو/ حزيران ۱۹6۷ وذلك بقبولهم مبدأ تبادل الأراضي والمفاوضة على حلّ نهائي للقضية، وقد راحوا يبحثون بصيَغ للالتفاف على "يهودية الدولة" (أول الرقص حنجلة) وعلى أصل الحق في فلسطين.
وبعد، فما هي ثوابت القضية الفلسطينية بعيداً عن كل ذلك اللغط؟ ۱- الحق الحصري للشعب العربي الفلسطيني بكل فلسطين التاريخية. ويجب اعتبار كل ما أحدثه الاستعمار البريطاني، في أثناء احتلاله لفلسطين ما بين ۱۹۱۷-۱۹4۸، من تغييرات سكانية أو جغرافية داخلية، غير شرعي ومخالفاً للقانون الدولي، فضلاً عن تجزئة فلسطين عن الوطن العربي المجزّأ أسهم بدوره، وكان ذلك سبباً حاسماً في الضعف الذاتي فلسطينياً وعربياً.
۲- اعتبار كل القرارات الدولية ابتداءً من قرار تقسيم فلسطين والتي تضمنت، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، اعترافاً بالنتائج المترتبة على إقامة دولة الكيان الصهيوني، وتهجير ثلثي الشعب الفلسطيني، أو على حرب يونيو/ حزيران ۱۹6۷، غير شرعي، ومخالفاً للقانون الدولي ومبادئ ميثاق هيئة الأمم المتحدة. وذلك إلى جانب الحق التاريخي والديني والحضاري والثقافي للشعب الفلسطيني في فلسطين.
۳- حق الشعب الفلسطيني في ممارسة كل أشكال الكفاح بما فيها المقاومة المسلحة لتحرير كامل فلسطين من النهر إلى البحر.
4- حق الشعب الفلسطيني بمقاومة الاحتلال للضفة الغربية وقطاع غزة ودحره وتفكيك ما قام به من مستوطنات أو أُحدث من تهويد في القدس، بلا قيد أو شرط. فلا حق للاحتلال في أن يساوم، أو يفاوض أو يحقق أية مكاسب مقابل الانسحاب، فأصل هذا الاحتلال غير شرعي وفقاً للقانون الدولي ولمبادئ ميثاق هيئة الأمم المتحدة، ومن ثم لا يجوز أن يُكافأ بأي شكل من الأشكال على ارتكابه جريمة الاحتلال وما أحدثه من تهجير ومجازر واعتداءات وإقامة مستوطنات وتهويد في مدينتيْ القدس والخليل.
5- لا يجوز الاعتراف بحلّ الدولتين الذي يتضمن الاعتراف بدولة الكيان الصهيوني، ولا بأي تغييرات في خطوط هدنة ۱۹4۸/۱۹4۹.
6- ليس من حق أي نظام عربي التخلي عن الحقوق العربية الثابتة في فلسطين باعتبارها جزءاً من الوطن العربي. وهذا من حق الأمة وحق الأجيال القادمة وليس من حق أية دولة أو حتى أي جيل من الأجيال. فالحق في فلسطين يجب أن يحافظ عليه حتى يجسّد بالتحرير الكامل.
۷- رفض الاعتراف بالمفاوضات المباشرة لما تتضمنه من اعتراف أو استعداد بالاعتراف، بالكيان الصهيوني. وهذه الخصوصية هي التي تميّز القضية الفلسطينية عن قضايا التحرّر الوطني التي واجهت الاستعمار ولم تكن لديها مشكلة في الاعتراف بدولة الاستعمار عدا عدم الاعتراف بالاستعمار ووجوده في بلادها.
۸- إقامة دولة فلسطينية قبل تحرير كامل التراب الفلسطيني يجب ألاّ تطرح للمساومة مقابل دحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات من الضفة الغربية وقطاع غزة. وإنما يُترك أمرها للاستفتاء بعد ذلك. ومن ثم لا يجوز وضع إقامة دولة فلسطينية في الأولوية قبل تحرير الأرض لئلا يساوم مقابل ذلك على الأرض، أو على أي جزء، أو حق من فلسطين التاريخية، التي كانت قبل سيطرة الاستعمار البريطاني عليها.
۹- أثبتت التجربة التاريخية والمعاصرة أن القبول بالحلول المقترحة أو الاعتراف بالقرارات الدولية من جانب القيادات الفلسطينية لم يأتيا بأيّة إيجابية أو يحققا حلاً، وإنما كان طريقاً لتكريس ما تمّ من هجرات صهيونية ما بين ۱۹۱۷-۱۹۴۸ كما لتكريس قيام دولة الكيان الصهيوني وما أحدثته من هجرات صهيونية، وتهجير للفلسطينيين، وتغيير في الخريطة الداخلية لفلسطين.
فقد أثبتت التجربة أن خصوصية القضية الفلسطينية لا تحتمل موضوعات مثل الاعتراف بالأمر الواقع، أو إنقاذ ما يمكن إنقاذه، أو ضرورة التفاوض، أو المساومة على بعض الحقوق للحفاظ على البعض الآخر، أو التقدّم بحلول مثل حتى الدولة الواحدة والمساواة بين سكانها. لأن كل ذلك بلا استثناء أدّى في التطبيق العملي إلى تقديم اعترافات مجانيّة للمشروع الصهيوني أو للذين هاجروا بلا وجه حق إلى فلسطين سواء أكان قبل قيام الدولة ۱۹4۸ أم بعد ذلك.
فكل ذلك قدّم مجاناً دون أي مقابل حتى على مستوى الاعتراف بأي جزء من الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني من جهة، كما نجم عنه من جهة أخرى، تجريئاً للمشروع الصهيوني وللدول الكبرى المساندة له على طلب المزيد من التنازلات من الجانب الفلسطيني والعربي حتى وصل الأمر الآن، من خلال مشروع ما يسمّى الاعتراف بيهودية الدولة، إلى حدّ المساس بأصل الحق في فلسطين إذ يُراد منه تثبيت الرواية الصهيونية عن حق يهودي مزعوم في فلسطين وعدم الاعتراف بأصل حق الشعب العربي الفلسطيني في فلسطين.
۱۰- ولهذا يجب إجراء نقد لما حدث من استدراج للفلسطينيين والعرب والمسلمين وحتى للعالم كله للتنازل خطوة بعد خطوة عن ثوابت القضية الفلسطينية المتمثلة بالحقوق كافة، والتي أدرجت بمبادئ ميثاقيْ (م ت ف) لعاميْ ۱۹64 و۱۹6۸.
فقد أثبتت التجربة بطلان كل المسوّغات النظرية والسياسية والواقعية التي قدّمت لتمرير كل خطوة من خطوات ذلك المسلسل من التنازلات. فقد كانت وهمية وخداعاً للنفس والدليل الصارخ نجده في النتائج العملية والواقعية لما قدّم من تنازلات، إلى جانب العجز عن ترداد ما قدّم من مسوّغات نظرية وسياسية وواقعية لمشروع الدولة الديمقراطية ۱۹6۹ أو لبرنامج النقاط العشر ۱۹۷4، أو لإعلان دولة الاستقلال ۱۹۸۸، أو لاتفاق أوسلو ۱۹۹۳ وأخيراً وليس آخراً للموافقة على توصيات مؤتمر أنابوليس ۲۰۰۷، وقبله ما سمّي بمبادرة السلام العربية.