الشهيد الصدر وأثر فكره الاقتصادي على العالم الإسلامي - 3 -
تنا
مع نهاية القرن الرابع عشر الهجري ومستهل القرن الخامس عشر للهجرة: اتجه العلماء والمفكرون الإِسلاميون ليعطوا الموضوع الاقتصادي اهتماماً مركزاً، خاصة مع ازدياد المطالبات بضرورة تحديد نظرية إسلامية في الاقتصاد تتجاوز العموميات بالنسبة إلى مسائل النظام الاقتصادي في الإِسلام.
شارک :
التنمية الاقتصادية في فكر الإمام الصدر:
(ان حاجة التنمية الاقتصادية إلى منهج اقتصادي ـ كما يقول الشهيد الصدر ـ ليست مجرد حاجة إلى اطار من اطر التنظيم الاجتماعي تتبناه الدولة فحسب، لكي يمكن ان توضع التنمية ضمن هذا الاطار أو ذاك بمجرد تبني الدولة له والتزامها به. بل لا يمكن للتنمية الاقتصادية والمعركة ضد التخلف ان تؤدي دورها المطلوب الا إذا اكتسبت اطاراً يستطيع ان يدمج الاُمّة ضمنه وقامت على اساس يتفاعل معها.. فحركة الاُمّة كلها شرط اساسي لانجاح اي تنمية واي معركة شاملة ضد التخلف لان حركتها تعبير عن نموها ونمو ارادتها وانطلاق مواهبها الداخلية فالتنمية للثروة الخارجية والنمو الداخلي للامة يجب ان يسيرا في خط واحد).
ويرى الشهيد الصدر ان من بين تجارب التنمية المتعددة والمختلفة في هذه المنطقة لا توجد تجربة واحدة توفرت لها عناصر الاستجابة والحماس الضرورين لخوض المعركة ضد التخلف. لان اياً من هذه التجارب لم تشتمل على منهج تنموي مستقل وظلت التبعية ـ في المنهج على الاقل ـ سمة كل هذه التجارب.
كما نلاحظ ان نظرية الشهيد الصدر في التلازم بين التنمية للثروة الخارجية والنمو الداخلي للامة هو من الحقائق التي لا يقتصر انطباقها على حالة الشعوب الإسلامية بل يرى ان «تجربة الإنسان الاوروبي الحديث هي بالذات تعبير تاريخي واضح عن هذه الحقيقة.. وان مناهج الاقتصاد الاوروبي كاطارات لعملية التنمية لم تسجل نجاحها الباهر على المستوى المادي في تاريخ اوروبا الحديث الا بسبب تفاعل الشعوب الاوروبية مع تلك المناهج ومتطلباتها واستعدادها النفسي اللامتناهي خلال تاريخ طويل لهذا الاندماج والتفاعل.
لذلك فان منهج الشهيد الصدر للبديل الاسلامي لمشروع النهوض والتنمية اتسم بطابع السجال الشامل مع الفكر الغربي ومناهجه واطره. ورأى ان الاُمّة الإسلامية لا يمكن ان تنتزع استقلالها الاقتصادي ونموذجها المستقل للتنمية وان تنتصر في معركتها ضد التخلف والتخلف الاقتصادي الا من خلال تعبئة فكرية وروحية ونفسية شاملة تستطيع من خلالها ان تواجه كل اشكال الضغط والمصادرة التي مارسها وسوف يمارسها الاقتصاد الرأسمالي الغربي ـ بالتأكيد ـ ضد اي محاولة لانتاج تنمية اسلامية مزدهرة ومستقلة..
ان الجديد النوعي في منهج الشهيد الصدر هو ادراكه استحالة الانتصار في معركة التنمية المستقلة بدون نسق من القيم المستقلة والمستمدة من عقيدة الاُمّة نفسها.. فقيمة الاستهلاك ـ مثلاً ـ وهي من ابرز قيم المجتمع الغربي المتقدم اقتصادياً حين تتسلل إلى البلاد المتخلفة وتصبح قيمة بارزة من قيم مجتمعاتها فان معركة الاستقلال الاقتصادي تصبح مستحيلة اذ كيف بوسع مجتمع يعلي من قيم الاستهلاك ويحرص عليه ان يخوض معركة ناجحة في التحرر والانفصال عن الدول المنتجة والمصدرة للسلع الاستهلاكية.
لذلك قام منهج الشهيد الصدر على التلازم بين فعل التنمية بوصفها معركة مع تحديات التخلف والتبعية ونمو الحوافز الروحية والفكرية للامة مما يتناسب مع تحمل الضغوط والتحديات التي تفرضها هذه المعركة.
ولقد ادرك الشهيد الصدر في هذا المجال ان الاُمّة لكي تخوض معركتها ضد عوامل التخلف والتبعية الاقتصادية لابد لها ان تستعيد ثقتها بمخزونها الحضاري الكبير.. وان الاُمّة الإسلامية بفعل الهزائم والتجارب الاستعمارية القاسية وبفعل التفكك الذي اصاب وحدتها السياسية فقدت الكثير من عناصر الثقة بذاتها ومكوناتها وداهمتها مشاعر الدونية تجاه مدنية الغرب العملاقة فاستسلمت كثير من قطاعاتها لهذه التبعية ولما يسميه الشهيد الصدر (الامامة الفكرية للغرب).
لذلك فان مشروع الشهيد الصدر للنهوض والتنمية لم يكتف بالدعوة إلى استعادة العقيدة الإسلامية إلى حياة الاُمّة بل خاض مقارعة طويلة ذات طابع فكري فلسفي شامل ضد البنية الفكرية للغرب وضد ادعاءات الصحة المطلقة لنظرياته ومناهجه وشكلت حصيلة هذه المقارعة التي تتضمنها كتبه (فلسفتنا) و(اقتصادنا) و(البنك اللاربوي) و(الاسس المنطقية للاستقراء) وغيرها من المداخلات والابحاث الاساس لكسر حدة الانبهار بفكر الغرب ونظرياته واعادة الثقة للنخب المسلمة بالمخزون الحضاري والمعرفي للامة الإسلامية مما يؤهلها ان تستعيد مكانتها ودورها المصادر في تقرير مصيرها والمساهمة في تقرير النظام العالمي نفسه. فها هي النظريات الغربية سواء في مجال الفلسفة أو الاقتصاد والسياسة تتهاوى امام النقد العلمي الرصين وتعود إلى حجمها الطبيعي واطارها النسبي من الصحة ولا تعود مطلقة وقابلة للتعميم في كل زمان ومكان.. وها هو الإسلام يملك في المقابل امكانات غير محدودة لتأطير حركة النهوض والتحرر الإسلاميين في مجالات المعرفة والتطبيق.
ان الشهيد الصدر بطرحه للاسلام منهجاً شاملاً لحركة التحرر والنهوض والتنمية على مستوى العالم الاسلامي يكون قد وضع مشكلة التنمية في اطارها الصحيح وواجه ازمة التخبط التي تعاني منها تجارب التنمية الفاشلة في العالم العربي والاسلامي.. ومن جهة اخرى يكون قد ارسى اساساً نظرياً وتطبيقياً لملء الفراغ الذي يشكون منه الخطاب الاسلامي المعاصر تجاه احد اهم اسئلة العصر وتحدياته التي هي مسألة التنمية.
ومن المفاهيم السامية انطلقت السياسة الاقتصادية الإسلامية لتستند إلى أسس أخلاقية تعالج الفقر والباطلة، وتسعى إلى توفير العمل، وعمارة الأرض، واستغلال الموارد، مع عدم فرض ضرائب على المحتاجين والمعوزين وأخذها منهم بالقوة، ويقول أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (ع) بشأن ذلك لعامله مالك الأشتر:
(وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة).
فإن السياسة الاقتصادية الإسلامية ترتكز على الجانب الأخلاقي في كل جوانبها، وكذلك في تخطيطها، لأنها تعتمد على مبادئ أساسية أهمها: مبدأ العدالة الاجتماعية مع الجميع مسلمين وغير مسلمين، ومبدأ الحرية لأنها حق إنساني طبيعي، ومبدأ الملكية المزدوجة. وهي مبادئ أثبتت واقعيتها ومصداقيتها بين مبادئ المذهبين (الرأسمالي، والاشتراكي)، اللذين اعترفا بخطئهما(النظري والعملي) المتعلق بنظرية (الشكل الواحد للملكية)، وأجازا بحدود معينة الأشكال الأخرى للتملك، بعد الاصطدام بواقع التطبيق وبروز المشاكل والأزمات الاقتصادية لكليهما. هذه الواقعية الذائبة في المذهب الاقتصادي الإسلامي، إضافة إلى أخلاقياته جعلته يتمايز عن المذاهب الاقتصادية الأخرى، ويوضح المفكر الإسلامي محمد باقر الصدر ذلك في كتابه (اقتصادنا) ص 306 بقوله:
ـ (إن الإسلام يهتم بالعامل النفسي، خلال الطريقة التي يضعها لتحقيق أهدافه وغاياته… يعني بوجه خاص بمزج العامل النفسي والذاتي بالطريقة التي تحقق تلك الغايات. فقد يؤخذ من الغني مال لإشباع الفقير مثلاً، ويتأتى بذلك للفقير أن يشبع حاجاته، وتوجد بذلك الغاية الموضوعية التي يتوخاها الاقتصاد الإسلامي من وراء مبدأ التكافل. ولكن هذا ليس هو كل المسألة في حساب الإسلام، بل هناك الطريقة التي تم بها تحقيق التكافل العام. لأن هذه الطريقة قد تعني مجرد استعمال للقوة في انتزاع ضريبة من الأغنياء لكفالة الفقراء. وهذا وإن كفى في تحقيق الجانب الموضوعي من المسألة، أي إشباع الفقير… ولكن الإسلام لا يقر ذلك مادامت طريقة تحقيق التكافل مجردة عن الدافع الخلقي، ولعامل الخير في نفس الغني. ولأجل ذلك تدخّل الإسلام، وجعل من الفرائض المالية ـ التي استهدف منها إيجاد التكافل ـ عبادات شرعية، يجب أن تنبع عن دافع نفسي نيّر يدفع الإنسان إلى المساهمة في تحقيق غايات الاقتصاد الإسلامي بشكل واع مقصود طلباً بذلك رضا الله تعالى والقرب منه). ويضيف الإمام الصدر:
ـ (ونتيجة لشعور الإنسان المسلم بتحديد داخلي يقوم على أساس أخلاقي لصالح الجماعة التي يعيش ضمنها يحس بارتباط عميق بالجماعة التي ينتسب إليها وانسجام بينه وبينها بدلاً من فكرة الصراع التي سيطرت على الفكر الأوروبي الحديث). ويؤكد أيضاً:
ـ (إذا اُلبست الأرض إطار السماء واُعطي العمل مع الطبيعة صفة الواجب ومفهوم العبادة فسوف تتحول تلك النظرة الغيبية لدى الإنسان المسلم إلى طاقة محركة، وقوة دفع نحو المساهمة بأكبر قدر ممكن في رفع المستوى الاقتصادي). ويمضي الإمام الصدر في تحليله الرائع قائلاً بمبدأ:
ـ (الارتباط بين المذهب الاقتصادي والسياسة المالية للدولة، إلى درجة تسمح باعتبار السياسة المالية جزءاً من برنامج المذهب الاقتصادي للإسلام. لأنها وضعت بصورة تلتقي مع السياسة الاقتصادية العامة، وتعمل لتحقيق أهداف الاقتصاد الإسلامي. فالسياسة المالية في الإسلام لا تكتفي بتموين الدولة بنفقاتها اللازمة، وإنما تستهدف المساهمة في إقرار التوازن الاجتماعي والتكافل العام. ولهذا كان من الضروري اعتبار السياسة المالية جزءاً من السياسة الاقتصادية العامة).
وهكذا فإن الاقتصاد الإسلامي يبدأ بواقعيته وموضوعيته لحل المشاكل والأزمات، التي تنشأ بعد التطبيق، واضعاً أمامه مبادئه الأخلاقية في كل حركة يخطوها باتجاه الأهداف المرجوّة، لهذا تمايّز عن (المناهج الاقتصادية) الأخرى، التي لا تقيم للأخلاق وزناً، حيث جعلتها أموراً نسبية متغيرة ترتبط بالزمان والمكان، وبمقدار المصالح والامتيازات!! بمعنى أن الاستغلال والاحتكار والربح الفاحش تصبح قضايا مشروعة تقتضيها العلاقات الاقتصادية الجديدة، الداعية إلى تضخيم رأس المال دون البحث عن مصادره المشروعة.
ومثل هذه (المناهج) لا تستقيم مع طبيعة مجتمعاتنا العربية والإسلامية، فمنيت بفشل ذريع، لأنها لا تعبّر عن روح وضمير الأمة وتطلعاتها المستقبلية. والغريب أن بعض المفكرين العرب فسّروا فشل (الأنظمة والمناهج المستوردة) تفسيراً مبتوراً، عندما ربطوا بين تطبيقها و(الظروف المصطنعة) التي أوجدها الاستعمار، دون أن يتلمسوا الأسباب (الذاتية والموضوعية) الأخرى، التي ترتبط بنوعية (المنهج المطبق) وفلسفته وآلياته. فيما ذهب آخرون إلى (التنظير المجرد)، أو البحث العقيم عن (طرق خاصة) لهذه (المناهج) تتلاءم مع المجتمعات العربية والإسلامية، وأدى ذلك بطبيعة الحال إلى تطبيق نفس (المناهج المتغربة) بكل ثقافتها وفلسفتها وأساليبها، وتكريس أزماتها ومشاكلها في المجتمع. وهذه الظاهرة قد أدركها المفكرون الأوروبيون مؤخراً، مما دعا (جاك اوستردي) إلى المراوغة والكذب في كتابه (التنمية الاقتصادية) حيث قال:
ـ إن فشل (الأنظمة الغربية) في البلاد الإسلامية مردها إلى (استسلام الإنسان للقدر واتكاله على الظروف والفرص وشعوره بالعجز الكامل عن الخلق والإبداع)!! في حين ان الفشل كان في طبيعة هذه (المناهج والأنظمة)، التي جمدت إبداع الإنسان المسلم، لأنها جعلته يشعر بإحباط نفسي كبير، عطّل قدراته على التغيير، وجعلته مستسلماً محبطاً، لا يرى أمامه سوى (النموذج الغربي) كطريق لتقدّمه. والإسلام يريد للإنسان المسلم غير ذلك… يريده قوياً يؤثر فيما حوله… وينشر الخير والسلام والمحبة والعدل على الناس، كل الناس مسلمين وغير مسلمين…لأنه يمتلك رسالة سماوية سمحاء تصنع الحياة الحرة الكريمة.
وأستطيع أن أضيف: بأن المنهج الإسلامي هو الحل للخروج من المأزق التأريخي الذي نعيش، فمن تجليات هذا المنهج افتضاحاً أنه يعبّر عن حس المجتمع العربي ودواخله أفضل تعبير. فالمنهج الصحيح يكون بالضرورة متفاعلاً مع مجتمعه بوشائج حية، وتراث أصيل، فهو ليس لصيقاً أو متغرباً أو مستورداً، بل حالة (ديناميكية) نشطة تعكس وجه المجتمع، وتعيش تفاصيله ومفرداته طولاً وعرضاً، لتعطينا إجابة موضوعية للأزمات والمشاكل المعاشة. وهو بذلك وجه من أوجه الحضارة، التي تكون أيضاً غير لصيقة أو مستوردة، بل تعيش حالة (حراك داخلي) متمثلة بعناصرها ومقوماتها المحلية الأصيلة، وحالة (حوار مع الحضارات) الأخرى، وحالة (صراع استثنائي) مع بعض (الحضارات المتزمتة).