أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد عن محمد بن يعقوب عن الحسن بن محمد الأشعري ومحمد بن يحيى وغيرهما قالوا: كان أحمد بن عبيدالله بن الخاقان على الضياع والخراج بقم، فجرى في مجلسه يوماً ذكر العلوية ومذاهبهم، وكان شديد النصب والانحراف عن أهل البيت (عليهم السلام)، فقال: ما رأيت ولا عرفت بسرّ من رأى رجلاً من العلوية مثل الحسن بن علي بن محمد بن علي الرضا في هديه وسكونه وعفافه ونبله وكبرته عند أهل بيته، وبني هاشم كافة، وتقديمهم إياه علي ذوي السن منهم والخطر، وكذلك كانت حاله عند القواد والوزراء وعامة الناس.
شارک :
الشيخ محمد بن محمد بن النعمان المفيد
فأذكر أنني كنت يوماً قائماً على رأس أبي وهو يوم مجلسه للناس، إذ دخل حجابه فقالوا: أبو محمد ابن الرّضا بالباب، فقال بصوت عال: إيذنوا له. فتعجبت مما سمعت منهم ومن جسارتهم أن يكنوا رجلاً بحضرة أبي، ولم يكن يكنى عنده إلا خليفة أو ولي عهد أو من أمر السلطان أن يكنَّى. فدخل رجل أسمر، حسن القامة، جميل الوجه، جيد البدن، حديث السن، له جلالة وهيئة حسنة؛ فلما نظر إليه أبي، قام فمشى إليه خطاء، ولا أعلمه فعل هذا بأحد من بني هاشم والقواد، فلما دنا منه، عانقه وقبّل وجهه وصدره، وأخذ بيده وأجلسه على مصلاه الذي كان عليه، وجلس إلى جنبه مقبلاً عليه بوجهه، وجعل يكلمه ويفديه بنفسه، وأنا متعجب مما أرى منه، إذ دخل الحاجب فقال: الموفق قد جاء. وكان الموفق إذا دخل على أبي، تقدمه حجابه، وخاصة قواده، فقاموا بين مجلس أبي وبين باب الدار سماطين إلى أن يدخل ويخرج، فلم يزل أبي مقبلاً على أبي محمد (عليه السلام) يحدثه، حتى نظر إلى غلمان الخاصة، فقال حينئذٍ له: إذا شئت جعلني الله فداك؟ ثم قال لحجابه: خذوا به خلف السماطين لا يراه هذا، يعني الموفق، فقام، وقام أبي، فعانقه ومضى .
فقلت لحجاب أبي وغلمانه: ويحكم، من هذا الذي كنيتموه بحضرة أبي وفعل به أبي هذا الفعل؟ فقالوا: هذا علوي يقال له الحسن بن علي، يعرف بابن الرضا، فازددت تعجباً، ولم أزل يومي ذلك قلقاً متفكّراً في أمره وأمر أبي، وما رأيته منه، حتى كان الليل، وكانت عادته أن يصلي العتمة، ثم يجلس فينظر فيما يحتاج إليه من المؤامرات، وما يرفعه إلى السلطان.
فلما صلّى وجلس، جئت وجلست بين يديه، وليس عنده أحد، فقال لي: يا أحمد، ألك حاجة؟ فقلت: نعم يا أبه، فإن أذنت سألتك عنها؟ فقال: قد أذنت، قلت: يا أبه، من الرجل الذي رأيتك بالغداة فعلت به ما فعلت من الإجلال والكرامة والتبجيل، وفديته بنفسك وأبويك؟
فقال: يا بنيّ، ذاك إمام (الشيعة) الحسن بن عليّ المعروف بابن الرّضا. ثم سكت ساعة وأنا ساكت، ثم قال: يا بنيّ، لو زالت الإمامة عن خلفائنا بني العباس، ما استحقها أحد من بني هاشم غيره، لفضله وعفافه وصيانته وزهده وعبادته وجميل أخلاقه وصلاحه، ولو رأيت أباه، رأيت رجلاً جزلاً نبيلاً فاضلاً.
فازددت قلقاً وتفكّراً وغيظاً على أبي وما سمعته منه فيه، ورأيت من فعله به، فلم تكن لي همة بعد ذلك إلا السؤال عن خبره والبحث عن أمره، فما سألت أحداً من بني هاشم والقواد والكتاب والقضاة والفقهاء وسائر الناس، إلا وجدته عندهم في غاية الإجلال والإعظام والمحل الرفيع والقول الجميل، والتقديم له على جميع أهل بيته ومشايخه، فعظم قدره عندي، إذ لم أر له وليّاً ولا عدوّاً إلا وهو يحسن القول فيه والثناء عليه .