الدين والمتغيّرات الثقافيّة المعاصرة - القسم الاول
تنا
العلاقة بين الدين والتديُّن، من جهة، وبين الحداثة والعلمنة والعولمة، من جهة ثانية، موضوع بالغ الأهميّة، يشغل بال المفكّرين والباحثين وعلماء الاجتماع الدينيّ، كما يشغل حيِّزاً كبيراً من فكر الإنسان المعاصر، خصوصاً المتدينين والتنويريّين.
شارک :
الكاتب : علي رضا شجاعي زند
تقديم واعداد : إبراهيم منصور
الكتاب: الدين والمتغيرات الثقافيّة المعاصرة، تأليف: علي رضا شجاعي زند، تعريب: حيدر نجف، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلاميّ، بيروت، الطبعة الأولى، 2012، 180 صفحة
العلاقة بين الدين والتديُّن، من جهة، وبين الحداثة والعلمنة والعولمة، من جهة ثانية، موضوع بالغ الأهميّة، يشغل بال المفكّرين والباحثين وعلماء الاجتماع الدينيّ، كما يشغل حيِّزاً كبيراً من فكر الإنسان المعاصر، خصوصاً المتدينين والتنويريّين.
ما زال أتباع الأديان المختلفة يجاهدون لكي يُثبتوا أنّ البشريّة لا تستطيع أن تتخلّى عن الإيمان الدينيّ لصلاح دنياها وآخرتها، في حين لا تزال العلمانيّة تضيِّق الخناق على الأديان كيفما دارت بها الحال، وسواءٌ منها السماوية وغير السماوية، لتثبت أنّها هي (أي العلمنة) دون سواها، محطُّ رحال البشريّة في حاضرها ومستقبلها.
فلِمن الغلبة في النهاية؟ وما هي العلاقة بين الدين والحداثة والعلمانيّة والعولمة؟ وهل يمكن التعايش بين الدين وكلّ هذه الظواهر؟ هذا ما يحاول كتاب الإجابة عنه.
فحوى الكتاب
إنّ هذا الكتاب ـ كما يقول مؤلِّفه علي رضا شجاعي زند، في مقدّمة كتابه ـ يتألف من ثلاث مقالات: دراسة العلاقة بين الدين والتحديث، هي موضوع المقالة الأولى.
وبما أنّ العلمنة كانت لها تحدِّياتها الأشدّ للدين، وأفرزت أحداثاً متنوِّعة على شتّى المستويات الاجتماعيّّة - الدينيّة، فقد عُنيتْ المقالة الثانية بدراسة العلمنة مصداقيًّا، في إيران المعاصرة.
وأمّا المقالة الثالثة فتسلِّط الضوء على عمليّة جارية دوماً، هي عمليّة العولمة؛ إذ حاولت المقالة معالجة الغموض في المفهوم لتعرِّج على تأثيرات هذه العولمة في الأديان، خصوصاً الإسلام وأهمّ التحدِّيات المحتملة التي تواجه هذا الدين الحنيف.
في المقالة الأولى يدرس الكاتب إمكانيّة تعايش الدين والحداثة، فيرى أنّ العولمة هي أهمّ عوامل العلمنة، وكان من المتوقَّع أن يؤدِّي بسطها وانتشارها إلى إقصاء الدين عن وعي الإنسان وحياته. إلّا أنّ وجود شواهد قويّة على الدين وفعاليّته، في المجتمعات الحديثة، يضع علامات استفهام حول نظريّة العولمة وتخميناتها واستنتاجاتها، ويفتح باب الأمل مشرعاً أمام المجدِّدين الدينيِّّين في مجال الدين على معايشة الحداثة.
قد ظهرت فعلاً، حالات المواكبة والتعايش بين الدين والحداثة، في بعض التجارب، خلافاً لما كان يتوقّعه بعض علماء الاجتماع ذوي الخبرة بالدين والعالم الحديث .
ويقدّم الكاتب، في هذا الإطار، رأياً لبعض علماء الاجتماع يقول إنّ وجود مصاديق لتناغم الدين والحداثة، في مقاطع من التاريخ، ومناطق من العالم، أدّى إلى انبثاق نتائج ظنيَّة وكليّة ترى أنّ التحدِّيات المدَّعاة بين الحداثة والدين ليست ذاتيّة، بل ناجمة عن قراءات ذاتيّة للدين أو الحداثة. وبناءً عليه، فلا العلمنة مصير محتوم للحداثة، ولا الحداثة تعني الرفض الكلّيّ للدين. وبالتالي يمكن السير نحو إسلام حداثي، أو حداثة إسلاميّة بهدف صيانة الدين في العالم الحديث، وتلطيف الحياة الحديثة بالإضافات المعنويّة التي يؤمّنها الدين.
وخلافاً لهذا المعتقد، يرى علماء الاجتماع ـ في الجانب الآخر ـ أنّ في الجمع أو التعايش بين الدين والحداثة، استحالةً، وذلك انطلاقاً من النقاط الآتية:
1- العلمنة لا تعني - وفقاً لأيٍّ من تعاريفها - شيئاً أقلّ من تقييد الدين، أو تحريفه.
2- ثمَّة قرب قريني بين العلمنة والحداثة، بحيث إنّ كلَّ خطوة في طريق الحداثة، تبتعد بنا خطوة عن طريق الدين.
3- التعارض المستعصي على الحلّ بين الحداثة وأنواع خاصّة من الدين، لا يرتفع إلّا عن طريق دحض أو قلب أحدهما لصالح الآخر .
في الردّ على تلك النقاط الثلاث وأصحابها، يؤكِّد المؤلِّف على حقيقة جليّة، هي أنّ الحداثة ليست الخيار الوحيد، ونموذج التنمية الوحيد للمجتمعات الإنسانيّة. ويقول في هذا الصدد:
"ما لا شكّ فيه لدى أيّ مفكّر منصف ومؤمن بالإمكانيّات والسعة اللامتناهية، هو انفتاح المستقبل ورحابته، وعدم تعيُّن مسار التحوُّلات التاريخيّة ".
من هذا المنطلق فإنّ المؤلِّف يأخذ على بعض المفكّرين شكَّهم في التعارض بين العلمنة والدين، واعتبارَهم بقاءَ الدين واستمرارَ حياته على أرضيّات العلمنة، حالة محتملة وجائزة. وقد تذرَّع هؤلاء المفكّرون لإثبات نظريّتهم، بأنّ وجود شواهد على العلمنة، إلى جانب مصاديق للتديُّن، يعَدُّ دليلاً على عدم التعارض بين الدين والعلمنة. ولكنّ الكاتب يفنِّد هذا الرأي رادًّا إيّاه إلى مجموعة من حالات السهو والخطأ الشائعة في مثل هذه القضايا، علماً بأنّ الكلام عن تعايش الدين والعلمنة غير ممكن، إلاَّ إذا جرى إحراز عدم وجود أيّ تنازل أو تهميش لموقع الدين ومكانته، أو أنّ التنازل الحاصل لا يؤدّي بأيِّ شكل من الأشكال، إلى عدوله عن مديَاته وأغراضه وأهدافه التي يدّعيها هو لنفسه. والمصاديق التي يسوقها أصحاب نظرة التعايش قلَّما تتضمّن مناقشة مثل هذه الشروط وإثباتها.
ويردُّ الكاتب نظريَّته في عدم الانسجام بين العلمنة والدين إلى تركيزه على أنّ العلمنة عمليّة زاحفة توسّعيَّة، وتحتلُّ تدريجيّاً كافّة المساحات الخاصّة بالدين، أو التي يدّعيها الدين لنفسه، وتدفعه إلى أدنى المواقع وأكثر الأماكن هامشيَّة وتفاهةً. وبالتالي فإنّ مشاهدة حالات ومظاهر دينيّة في المجتمعات المتعلمنة، لا تُعَدُّ ثغرةً في نظرة الكاتب إلى العلمنة التي تعمل في خطوتها الأولى، على إسقاط الدين من مرتبته كحلّ جامع لكلّ شؤون الحياة الفرديّة والاجتماعيّّة للإنسان، وتقترح عليه (أي الدين) أن يبقى المؤسّسة العُليا. ولكنّها، في خطوةٍ ثانية، تسحب البساط من تحته، إذ تدعو بقيّة المؤسَّسات إلى الخروج عن السيطرة والهيمنة للدين كمؤسَّسة فرعيّة، أو تركه لمنزلته المؤسَّساتية. ويدعم الكاتب استنتاجاته هذه بآراء عدّة من المفكرين في هذه المجالات، منهم:
لاكمن (1967)، وبرغر (1967)، ولوهمن (1982)، ودابلر (1999). وتبقى المحطة الأخيرة للدين، في هذه العمليّة، هي تحوُّله إلى هَمّ شخصي في إطار الجوانب المعنويّة والروحيّة للحياة.
الحداثة والعلمنة
يرى المؤلِّف أنّ ثمَّة إجماعاً على أثَر الحداثة في العلمنة بين علماء الاجتماع الكلاسيكيين، مثل هميلتون (1995)، واستارك (1999)، وعلماء اجتماع الدين.
كما يُشير إلى اعتقاد فيليب هاموني (1984) بأنّ العلمنة هي نتيجة وثمرة لسياقات التحوُّل الصناعي، والعقلنة والتمدُّن، وهي من الخصائص الرئيسة للحداثة.
وقد لاحظ هايدن (1987) وفينك (1992) تأثيرات هذه العوامل في خفض منزلة الدين.
ويرى جيمسون أنّ النظام الرأسمالي الحديث الذي أوجد عالماً ماديّاً تماماً، هو المسؤول عن موت الدين، (وهو بذلك يقصد المجتمعات الأوروبيّة والأميركيّة)، فيقول إنّ الرأسماليّة والعصر الحديث حقبة نشهد فيها انقراض الأمور المقدَّسة، إذ تزول جميع القِيم المعنويّة من الحياة الجارية بتأثير الثقافة المادية .
الدين والحداثة
لقد واجهت هذه النظريّة المذكورة أعلاه، والشائعة، انتقادات وتشكيكات جادّة خلال العقد أو العقدين الأخيرين. وقد طرح المشكّكون إمكانية تعايش الدين مع الحداثة، وأنّه لا ينبغي إطلاقاً إصدار حكم حازم بشأن وجود سياق يُفضي إلى زوال الدين. وقد قسم الكاتب هؤلاء المفكّرين ثلاث فئات:
1- الذين شكّكوا في كون الإنسان والمجتمعات، في مرحلة ما قبل الحداثة، أكثر تديُّناً من الإنسان والمجتمعات الحديثة.
2- الذين شكّكوا في ألّا يكون الإنسان والمجتمعات القادمة، أكثر تديُّناً من الإنسان والمجتمعات في العصر الحديث.
3- الذين يشيرون ـ عند دراستهم للوضع الحالي ـ إلى شواهد ومؤشرات مهمَّة للتعايش بين الدين والحداثة.
تسوق الفئة الأخيرة شواهد عينيّة على أنّ الدين يواصل حياته بنشاط وفاعليّة، على خلفيّة الحداثة، ليؤكِّدوا على إمكانيّة التعايش والصلح بين الدين والحداثة. ومع أنّ الشواهد المطروحة من قِبلهم، متنوِّعة، إلّا أنّه يمكننا حصرَها وتصنيفَها في خمس مجموعات متمايزة:
1- نظريّة ماكس فيبر وأتباعه حول اكتشاف التناغم بين نوع من الأخلاق الدينيّّة، وبين النظام الرأسماليّ الحديث، كأبرز تجلّيات الحداثة.
2- وجود المستوى العالي للتديُّن، في بعض المجتمعات الحديثة.
3- ظهور حركات دينيّة جديدة في العالم الحديث.
4- تديُّن بعض القادة الحداثويِّين، أو حداثة بعض القادة الدينيِّّين في البلدان النامية.
5- وجود بعض العناصر الحداثيّة في الحياة الفرديّة والاجتماعيّّة للمتديِّنين .
الحداثة وردود الفعل الإسلاميّة
يرى المؤلِّف علي رضا شجاعي زند أنّ الكثيرين من علماء اجتماع الدين الغربيّين اكتفوا بإطلاق آراء عامَّة حول الأديان غير المسيحيّة، بسبب قلّة معلوماتهم عن الفوارق العريقة بين تعاليم الأديان وتيّاراتها الداخليّة، ممّا جعل نظريّاتهم تُراوح في العموميّات والكليّات.
ولجلاء هذا الموضوع يسارع المؤلِّف إلى القول بأنّ ظهور العناصر الحداثية وانتشارها وبقاءها في بعض المجتمعات الإسلاميّة، لم تكن لتتحقّق وتؤتي ثمارها من دون مساعدّة الركائز الفكريّة والتعضيدات الأيديولوجية الموافقة لها.
وينبغي الاعتراف ـ يقول الكاتب ـ بأنّ هناك في إيران الإسلاميّّة، حداثة حقيقيّة ـ ومن دون عنوان، طبعاً ـ تعيش إلى جانب الدين، وتجري في حياة المتديّنين. وهي تحاول ـ رغم بدائيَّتها ـ أن تطرح نفسها كتجربة مختلفة، ونموذج يُحتذى به من قِبل المجتمعات الأخرى. ويعتبر المؤلِّف أنّ هذا المصداق النوعيّ يتمتّع بدرجةٍ عاليةٍ من الإتقان والمتانة والتوثيق لدحض نظريَّة تعذُّر التعايش بين الدين والحداثة .
ويذكر الكاتب جهود (فيبر) لإثبات نوع من التناغم والانسجام بين البروتستانتيّة المسيحيّة، وبين روح الرأسماليّة، لإثبات إمكانيّة التعايش بين الدين والحداثة. لكنّه، أي المؤلِّف علي رضا شجاعي، يعتبر أنّنا إذا كنّا هناك (في البروتستانتيّة المسيحيّة) أمامَ دين تجزيئيّ، وتوصَّلنا ـ في إطار عمليّة غير إراديّة ـ إلى التناغم مع أحد أوجه الحداثة، فإنّنا، هنا (في إيران الإسلاميّّة) أمام دين شمولي، ومسيرة واعية تمام الوعي، حيث الجهود حقيقيّة وجادّة لتعزيز التديُّن الشامل ذي الامتدادات الفرديّة والاجتماعيّّة من ناحية، والسباق الساخن لتحديث ظروف الحياة، من ناحية أخرى.
ويُثير الكاتب مسألةً مهمَّةً تتعلَّق بنوعيّة التحديث في الدولة الإيرانيّّة، هل هو على مستوى الاستهلاك لمنتَجات الحداثة؟ أو على مستوى الإنتاج في عمق الحداثة؟ فيقول إنّ بعض حالات التماشي والتعايش مع العناصر الحداثيّة الملاحظة على تجربة الدولة
الدينيّة في إيران، لا تتعلّق بالتكيُّف مع منتجات الحداثة الخاصّة، بل بمتطلَّبات التغيير والتحديث والتلبية المناسبة لإحتياجات الإنسان الجديدة، تبعاً للتحوُّلات الكميّة والنوعيّة في ظروف حياته.
ويستدرك الكاتب قائلاً إنّ مكابدة مُثُل الثورة، وتأسيس دولة دينيّة في إيران، يحتاجان إلى زمن أكثر من هذا حتّى يتحوّلا إلى تجربةٍ ممكنة التقييم ومواجهة للحداثة؛ إذ إنّ الأوضاع والبنى العامّة لا تُخلَق من الصفر، ولا تتشكّل في الفراغ، وإنّما تتحقّق تدريجيًّا، وبالعزيمة والتدبير والجهود الدؤوبة على طريق كثير المنعطفات والتجاذبات، وبكثيرٍ من الاختبارات والأخطاء. طريق يكون الاتجاه ومقدار الحركة فيه تابعين وحصيلتين لعوامل متعدّدة وقوى مختلفة الاتجاهات؛ وذلك على أرض ليست بكراً بالكامل، وبخامات وأدوات موجودة مسبَّقاً، وبعضها معارض، أو غير متماشٍ، ولكن لا مندوحة عن استخدامه بسبب هيمنته وسيطرته.
ويحذِّر الكاتب من أنّ عدم التوفُّر على خطّة أو عزيمة أو إرادة حادّة لإطلاق نموذج دينيّ للحياة والتجدد، والابتلاء بمقتضيات العمل، والاستسلام للظروف والإمكانيّات الجاهزة مسبقاً في العالم الحالي، منبعثة من تقبُّل أطروحة نهاية التاريخ، وانتهاء عصر الدين والأيديولوجيّات، وقبول الأحقيَّة البراغماتيّة للنموذج الذي نجح عمليّاً وفرَض هيمنته.
ويتابع المؤلِّف تحذيراته قائلاً: "السَّيْر في هذا الطريق، مع أنّه يبدِّد من أذهان المتديِّنين وقلوبهم، الأملَ بظهور بدائل دينيّة للتحديث والتجدُّد، لكنه لا يُثبت ـ في الوقت نفسه ـ شيئاً لصالح إمكانيّة التعايش بين الإسلام والحداثة؛ إذ لن يبقى في خاتمة هذا الطريق، شيءٌ من الدين بالشكل الذي تفيده التعاليم الإسلاميّّة، حتّى يمكن الكلام عن التلاقي بينه وبين الحداثة، هذا ما عدا ذكريات نوستالجيّة، أو تماثيل متحفيّة لا تشكّل حالة نديَّة للحداثة" .
ويخلص الكاتب، في نهاية مبحثه الأوَّل (الدين والتحديث) إلى أنّ وجود نوع من الإجماع بين علماء الاجتماع الكلاسيكيّين، وعلماء اجتماع الدين، حول دور الحداثة في عمليّة العلمنة، أو الدور العلمانيّ للحداثة، يزيل كلَّ الشكوك بشأن التعارض الحتمي (المستعصي على العلاج) بين الدين والحداثة .
الدين والعلمنة
المقالة الثانية من هذا الكتاب ـ وهي بعنوان (احتمالات العلمنة في إيران) ـ يحاول فيها المؤلِّف، عن طريق تشخيص موضع البحث في أدبيّات العلمنة، فصلَ منهجيّة المقالة عن التأمّلات والاهتمامات الصحفيّة والإعلاميّة، والهموم الكلاميّة في هذا الباب.
ويعتبر الكاتب في مقدِّمة هذا البحث، أنّ العلمنة هي ذات جذور غربيَّة، وقد وصلت، في تلك البلدان، إلى بلوغها التجريبيّ والنظريّ. كما يرى أنّها عمليّة عامَّة نابعة من أمنيات البشر بمزيد من التمتع بمواهب الحياة؛ لذلك ستطال أيّ فرد أو مجتمع يسير سيراً حثيثاً في طريق التنمية. ومع أنّ العلمنة كانت من الموضوعات المحبَّذة لدى المستنيرين والصحافة، وقد بلغت أطوارَ نضجها واتّساعها في إيران، عن هذا الطريق، إلّا أنّ هذا الموضوع أو البحث ـ كما يرى المؤلِّف ـ يعاني في المجتمع الإيرانيّ من نقيصتين مهمّتين، رغم كلّ سعته واستيعابه:
1- عدم وصول المساعي النظرية الرامية إلى إطلاق نظريّات متطابقة مع الظروف الإيرانيّّة، إلى نتائج تُذكَر.
2- الإفتقار إلى مساعٍ جادّة لتجاوز النقاشات النظرية نحو البحوث العلميّّة الميدانية.
بعد هذه المقدّمة، وتحت عنوان (محلّ النِّزاع) يعمد الكاتب إلى تقسيم المجتمعات ـ من حيث علاقتُها بالدين ـ إلى ثلاث فئات:
أوّلاً: مجتمعات ليس لا علاقة بالدين.
ثانياً: مجتمعات لها علاقة بالدين عن طريق التأثيرات غير المباشرة، والمحدودة للأفراد المتديّنين.
ثالثاً: مجتمعات لها بالدين علاقة بنيويّة منظّمة.
ويَعتبرُ الكاتب أنَّ النوع الأوّل نادر التحقُّق جدّاً، ومصداقه المحتمَل الوحيد بعض المجتمعات الغربيّّة الشديدة العلمانيّة. أمّا النوع الثاني فهو الحالة التي تصدقُ على معظم المجتمعات المعاصرة. وأمَّا النوع الثالث فهو ـ رغم ندرته ـ له عدّة مصاديق في العالم المعاصر، وربما أمكن اعتبار إيران ما بعد الثورة مصداقاً بارزاً لهذا النوع.
وبقليلٍ من التسامح يُطلق الكاتب على هذه الأنواع ـ على الترتيب ـ أسماء: (المجتمع العلماني)، و(مجتمع المتديّنين)، و(المجتمع الدينيّ).
وفي ضوء حقائق ثلاث هي:
1- الجوهر الشموليّ والتركيبيّ للإسلام .
2- الأكثرية المسلمة التي تزيد عن 89%، والأكثريّة الشيعيّة التي تقارب الـ90%، في إيران .
3- توفُّر الظروف لممارسة الدين دوراً بنيويّاً في المجتمع .
يبدو أنّ نوع الدولة الدينيّة يتطابق مع الوضع في إيران أكثر من غيرها.
ويرى المؤلّف أنّ في المجتمع الإيرانيّ ديناً مشتركاً ينادي بالتدخُّل في الميادين السياسيّة - الاجتماعيّّة، وله نفوذ واعتبار كبيران في هيكيليّة المجتمع، وقد تولَّى أرقى المناصب في السلطة السياسيّة إثر ثورة شاملة كبيرة، عن طريق أصوات الجماهير المباشرة وغير المباشرة.
كما يلحظ الكاتب أن مجموع هذه الظروف قد وفَّر أرضيَّة مساعدّة لتفعيل العوامل (الإراديّة) و(اللّاإراديّة)، أو (مشاريع) و(عمليّات) العلمنة في إيران .
ثمّ يعمد المؤلِّف علي رضا زند إلى تعريف العلمنة بأنّها عمليّة تهبط فيها مكانة الدين وأهميّته عند الفرد والمجتمع، وتغلب فيها التصوُّرات والقراءات الدنيويّة عن التعاليم والغايات الدينيّّة.
وعلى أساس التوجُّه التجزيئيّ الغالب على التعاليم المسيحيّة، تعني العلمنة هبوط مكانة الدين وأهميّته إلى جانب نوع من (الانتقال) من ما وراء الطبيعة إلى الطبيعة، ومن الله إلى الإنسان، ومن الإيمان إلى العقل.
وبحسب النظرة التقابليّة الجارية في الرؤية المسيحيّة التجزيئيّة، فإنّ أيَّ شكل من الاهتمام بالطبيعة والعناية بالإنسان والاستعانة بالعقل، يستدعي الإدبار والإعراض عن الأنداد والمعادلات الدينيّة.
ومن البديهيّ ـ كما يشير الكاتب ـ أنّ هذا التعريف أو الفهم لعمليّة العلمنة يتناقض مع تعاليم الأديان الشموليّة، خصوصاً الإسلام الذي يؤكّد على الدمج والتسرية، لا على التفكيك والتجزئة، وعلى الملاءمة والتوفيق بين الثنائيّات المذكورة، لا على تناشزها وتعارضها، إضافةً إلى تأكيده على التوفيق بين سائر الثنائيّات، نظير العقل والوحي، والعلم والدين، والدين والدولة، والتراث والحداثة.