تاريخ النشر2019 1 April ساعة 13:25
رقم : 411907

الدين والمتغيّرات الثقافيّة المعاصرة - القسم الثاني

تنا
إنّ النزعة المحافظة والمصلحيّة لرجال الدين في الحكومات الدينيّة، لا تؤدِّيان فقط إلى تعطيل الأصول، بل تُفضيان أحياناً إلى التزمُّت والصرامة في التعامل مع النقّاد والمصلحين والمعارضين الأصوليين للنظام الحاكم. وهذا ما يمكن أن يساعد على علمنة المجتمع والمتديّنين.
الدين والمتغيّرات الثقافيّة المعاصرة - القسم الثاني
الكاتب : علي رضا شجاعي زند
تقریض :  إبراهيم منصور

وتحت عنوان (مسار العلمنة في إيران) يرى المؤلِّف أنَّ الشكّ في انطباق نظريّات العلمنة الغربيّّة على الظروف الإيرانيّة، لا ينفي إطلاقاً، احتمال علمنة إيران، بما في ذلك علمنة المجتمع والفرد والدين في إيران، إنّما يرمي إلى تحليل صحيح للمسألة من أجل اكتشاف عوامله ومسيرته الواقعيّة وعرضه .

ويعتقد المؤلف أوّلاً أنّ العلمنة في إيران، تتأثّر، بالدرجة الأولى، بكفاءة أو عدم كفاءة نظام يُطلق ادعاءات كبيرة جدّاً. وثانياً تَتْبع نموذج التنمية الذي تمَّ أو سيتمُّ اختياره لإدارة هذا المجتمع.

ويُحذِّر من مسألة هي غاية في الخطورة مؤدّاها أنّ عدم كفاءة الحكومة - الدولة في توفير الحدود الدنيا من الحياة الكريمة للإنسان المعاصر الغنيّ بالآمال والمطالبات، يمكن أن يزعزع إدارة المسلمين في الاندفاع نحو المجتمع والدولة الدينيّيْن، ويبثّ في نفوسهم اليأس من السعي وراء المبادئ الدينيّة كخطط عمل وحياة، ويصرفهم عنها. كما أنّ الاستنساخ المنفعل، ومن دون تغييرات لوصفة التنمية الغربيّة، يمكن أن يُعَلْمِن المجتمع المتديِّن، والأفراد المتديّنين على المستوى العمليّ، حتّى لو لم يمسّ ظاهرهم الدينيّ.

في ضوء المعايير أعلاه، بخصوص تصنيف عوامل العلمنة إلى أصليّة وفرعيّة، يبدو أنّ "عدم الكفاءة " و(نموذج التنمية غير المناسب) يعُدُّهما المؤلِّف من أهمّ العوامل الأصليّة لعلمنة المجتمع في إيران. هذا مع العلم أنّ اتضاح عدم كفاءة الأديان الشموليّة في تأسيس المجتمعات وإدارتها ورفعتها، هو ذو تكاليف أعلى بكثير من الأديان التجزيئيّة.

وفضلاً عن خسرانها (أي الأديان الشموليّة) فرصة نادرة، فإنّها تمنحُ أرضيَّةً مساعدّة وفرصة مضاعفة للمنافسين المتربِّصين بالدين كي يُعَلْمِنوا المجتمع والفرد.

وتبرز هذه القضيّة بدرجةٍ من الخطورة والأهميّة بالنسبة إلى المذهب الشيعيّ الذي اكتسب ـ بسبب العقبات والمِحَن التاريخيّّة ـ حماساً وتعجيلاً مبدئيًّا أكبر، ونزل إلى الساحة بادعاءات أضخم .

هنا مكمن الخطورة، إذاً؛ لذا فالتشديد على التأثير المضاعف لعدم الكفاءة، في عمليّة العلمنة، ناجمٌ عن أنّه ـ فضلاً عن عرقلة الوصول إلى الأهداف المقرّرة للدين ـ يؤدّي إلى انكسار الدين وتراجعه في الميادين الأيديولوجيّة والنظريّة.

وفي موضوع (نموذج التنمية غير المناسب) يقول علي رضا شُجاعي إنّ البنية الاجتماعيّة للمجتمعات ـ باعتبارها أرضية لتطبيق التعاليم الدينيّّة، وتحقيق أهداف الدين بخصوص الإنسان ـ تتأثّر تأثّراً شديداً بأسلوب إدارة المجتمعات ونموذج تنميتها.

وخلافاً للرؤية التي تحاول اختزال التنمية إلى محض تدخُّل صناعي ـ إداري في شتّى المجالات الاجتماعيّّة، واعتبارها غنيَّة عن أيِّ أسُس نظريّة واتجاهات أيديولوجيّة، يسارع المؤلِّف إلى اعتبار التنمية ظاهرة تحتاج بشدَّة ـ خصوصاً من ناحية تعيين الأهداف ومسار التطوُّر ـ إلى توجيه أيديولوجيّ وهداية نظريَّة.

ويركّز الكاتب على هذه الفكرة محذِّراً من أنّ قلّة الاهتمام بتأثيرات نموذج التنمية في عمليّات العلمنة، ناتجة من اعتبار الأديان غير أيديولوجيّة وتكمن خطورة هذا الادِّعاء الذي يُطرح أحياناً من باب مناصرة الدين، وبهدف تعظيمه، وضمان بقائه في عصر انتهاء الأيديولوجيّات، في أنّه يُفضي ـ لا إراديّاً ـ إلى تعطيل الدين وإخراجه من حيِّز الفائدة والنفع.

ويتابع الكاتب شرح هذه الإشكاليّة مؤكِّداً على أنّ إثبات لا أيديولوجيّة الدين عمليّة يسيرة وصائبة، إذا كانت بخصوص الأديان التجزيئيّة المجافية للدنيا. أمَّا إذا كانت بخصوص الأديان الشموليّة كالإسلام، فهي غير صائبة ولا ميسورة. وإنّ هذه الأديان لا تستطيع عدم الاكتراث للاتّجاهات الأيديولوجيّة الكامنة في أهداف نماذج التنمية ومساراتها، ولا يمكن لأيِّ نموذج من نماذج التنمية تأمين غايات الأديان وأغراضها وضمان بقائها وحيويّتها.

ويتابع الكاتب تحليله لهذه المسألة الشائكة معتبراً أنّ التأثيرات المذهلة والواسعة للتنمية في ميادين الحياة الفرديّة والاجتماعيّة المختلفة، تضع الأديان وأتباعَها في الموقف الصعب. ثمّ إنّ التناشز المستمرّ بين الظروف والمطالبات يؤدّي إلى غياب المبادئ والأهداف الدينيّة في غياهب الانتظار، وتحوُّل الدين إلى تكليف شاقّ، وأحياناً لا يُطاق. وبذلك لا يمكن العثور على الدين إلّا في صفحات الذهن وسرائر القلوب على أحسن الافتراضات.

ويستنتج المؤلِّف، من ذلك، قائلاً إنَّ هذا هو معنى العلمنة الذي اعتبره بعض المستنيرين الدينيّين مشفقاً ونصوحاً جدًّا، لأنّه لا يمتنع عن الهدم الكامل للدين فحسب، بل ويتلطّف بالمساعدّة على استقراره في أفضل أماكنِه وأنسبِها ـ ألا وهو ذهن المتديِّن وقلبه ـ وبقائه مقدَّساً مؤتمناً بعيداً عن التلوُّث بالأمور الفانية الدنيئة.

ويخلص علي رضا إلى القول، في
هذا الموضوع: (ما عدا إتِّباع) الدولة لنموذج التنمية لدى الآخرين، في إدارة المجتمع. فإنّ تبعة هذا الاتِّباع سواء أكان موفّقاً أو غير موفّق، سينتهي لصالح أصحاب هذا النموذج وعارضيه، ويُعَدُّ شاهداً آخر على عجز الدين في المجالات الاجتماعيّة، وفي تصميم نموذج للتنمية وعرضه، وفي اقتباس النماذج واحتذائها، وحتى في التطبيق الصحيح للنماذج التي حالفها النجاح في تجارب الآخرين .
 
وفي موضوع أداء النخبة وتوجهاتهم، يعتبر المؤلِّف أنّ النخبة ـ في ظروف معيّنة ـ عامل مؤثّر في ظهور العلمنة وتكريسها. وفي ضوء الماضي التاريخيّ لإيران وظروفها الراهنة، يرصُد تيَّارَيْن نخبويَّيْن مؤثِّرين في المضمار السياسيّ والاجتماعيّ: تيار رجال الدين، وتيّار المتنوِّرين.

رجال الدين: يعتبر المؤلف أنّ رجال الدين ـ بسبب الادِّعاء والدور والرسالة التي حملوها على عاتقهم، والتوقعات التي أوجدوها لدى عموم الناس تبعاً لذلك ـ سيؤثّرون في علمنة إيران عن ثلاثة طرق على الأقلّ: الانفصال عن الناس، والميل إلى الدنيا والنزعة المحافظة.

1ـ انفصال رجال الدين عن الناس
إن المجابهات التاريخيّة لرجال الدين الشيعة مع السلطات والحكومات أخذت أواصرهم وارتباطهم بالجماهير إلى حدٍّ بعيد، وهذه الخصيصة التي أفصحت عن آثارها بوضوح في فترة الثورة الإيرانيّة، خلال عامي 1978 و1979، قد تعرّضت ـ بعد تشكيل النظام السياسيّ الدينيّ واستلام السلطة ـ إلى تغييرات يُعبَّر عنها (بانفصال الناس عن رجال الدين). ومع أنّ هذه الظاهرة ربّما تعرّضت لنوع من التضخيم، وكان لها معانٍ مختلفة عند من روَّجوا لها، إلّا أنّها واقع تثبتُه كثرة الشواهد. ومع ذلك هناك آراء متضاربة حول كميّة هذا الواقع ونوعيَّته وأسبابه .

إنّ قصد الكاتب من انفصال رجال الدين عن الناس، أنّ الانشغال الإجباريّ لرجال الدين في أدوارهم ومسؤوليّاتهم الجديدة، أثّر سلباً على أواصرهم وارتباطاتهم المباشرة وغير الرسميّة السابقة مع الناس، وقلّل إلى حدٍّ كبير من حضورهم في مواضعهم التقليديّة، أي المساجد والمنابر نتيجةً لانخراطهم في نشاطات أهمّ ـ حسب الظاهر ـ في الأجهزة والمؤسـّسات الحكوميّة كدوائر الدولة والمؤسَّسات الثوريّة وقوّات الشرطة والجيش والسلطة القضائيّة والقطاعات الإعلاميّة الرسميّة.
 
2ـ مَيْل رجال الدين إلى الدنيا
يرى المؤلّف أنّ تأسيس نظام الحكم من قِبَل الأديان الشموليّة ـ مع أنّه استراتيجيّة لازمة ومفيدة لنشر التعاليم وتكريسها، ومتابعة المبادئ والأهداف الدينيّة ـ ينطوي على آفات من قبيل مَيْل المتديّنين إلى الدنيا. فعدم المراقبة اللازمة، وقلّة الاكتراث لهذه الورطة يُفضيان إلى مسخ الدولة الدينيّّة، ونقض أغراض الدين. إنّ هذا الأمر خطير، وقد يؤدّي إلى ابتعاد الناس عن الدولة الدينيّة، وربما إلى إعراضهم عن الدين نفسه! .

3ـ النزعة المحافظة لرجال الدين
لقد عانت مختلف أنواع الحكومات التي تأسَّستْ في البلدان الإسلاميّّة، باسم الدين، من مشكلة مشتركة، هي ترجيح البقاء على المبادئ والأصول؛ فإنّ ضرورات مختلفة من قبيل البقاء والأمن والحزم واليقظة حيال المنافسين الدينيّين، وتهديدات الأجانب، أدَّت دائماً إلى ترسيخ نمط من الروح المحافظة حيال أنظمة الحكم. ومع أنّ هذه الروح شاعت بين علماء أهل السنّة أكثر، بسبب الغلبة التاريخيّة، إلّا أنّها لم تكن بعيدة كل البعد عن ممارسات علماء الشيعة وأفكارهم .

فرغم أنّ قوّة رجال الدين الإيرانيّّين ونفوذهم سجَّلا تصاعداً خلال الفترة الماضية، وقد استلموا، في الحقبة الأخيرة، موقعاً حصريًّا في السلطة، بيد أنّهم لم يتحرَّروا من احتمالات الابتلاء بآفة النزعة المصلحية، والاحتياط، والنزعة المحافظة. وفي عهد استقرار الدولة الوحيدة، بالمعنى الدقيق للكلمة، ارتفعت احتمالات هذه الحالة، على نحو خاصّ .
إنّ تكاليف النزعة المبدئية، وصعوبات الإصرار على الأصول، من جهة، والقلق من خسارة هذه الفرصة الفذَّة، من جهة ثانية، يمكن أن يضعا رجال الدين على طريق يعتذرون فيه بحجم الطاقات والمتطلّبات ليتخلَّوا عن الأصوليّة المتوقّعة منهم، ويكتفوا بظاهر
 
الأمور.
إنّ النزعة المحافظة والمصلحيّة لرجال الدين في الحكومات الدينيّة، لا تؤدِّيان فقط إلى تعطيل الأصول، بل تُفضيان أحياناً إلى التزمُّت والصرامة في التعامل مع النقّاد والمصلحين والمعارضين الأصوليين للنظام الحاكم. وهذا ما يمكن أن يساعد على علمنة المجتمع والمتديّنين.

وفي موضوع المتنوِّرين، يقول الكاتب: المتنوِّرون ـ بغض النظر عن ميولهم وتوجهاتهم ـ تيّار مؤثّر في الميادين الاجتماعيّّة.. فإنّ سمات التجديد والنقد جعلت هذا التيّار مفضَّلاً ومحبَّذاً لدى شرائح من المجتمع، خصوصاً الشباب.

في ضوء صبغة التنوير وماضيه في إيران، حيث كانت عيونه دوماً مسمَّرة على الخارج، تكتسب هذه المسألة وضعاً خاصاً لا يَعْدَمُ التأثير في عمليّات علمنة إيران.
بعد ذلك ينتقل الكاتب إلى المقالة الثالثة والأخيرة من كتابه، فيسلِّط الضوء على عمليّة العولمة وتأثيراتها في الأديان، خصوصاً الإسلام، وأهمّ التحدِّيات المحتملة التي تواجه هذا الدين.

الدين والعولمة ـ الدين والظاهرة العالميّة
يشرح المؤلِّف (العالميّة) بأنّها عنوان عامّ لظاهرة لها جوانب مختلفة، وهي ـ بالدرجة الأولى ـ واقع يتعلّق بالإشباع الكمّي للعالم، ومضاعفة الترابط بين أجزائه المكوِّنة له.
وفي مقدِّمة البحث يثير الكاتب علاقة الدين بالمعنى الأعمّ للكلمة بـ(الظاهرة العالميّة) التي تشغل أذهان المفكِّرين منذ فترة، كما يطرح عدّة أسئلة من قبيل: هل نحن أمام موقف مشترك وردود فعل متشابهة من قِبل الأديان، أم أنّ كلّ واحد من الأديان واجه هذه الظاهرة بحسب خصائصه التعاليميّة والتاريخيّّة، والمساحات والمدَيات التي يدَّعيها لنفسه؟ وهل تواجه الأديان ظاهرة واحدة، أم أنّ هناك صُوَراً للظاهرة العـالميّة تشارك في هذه القضية، وتثير تحدِّيات مختلفة؟
وفي إجاباته عن تلك الأسئلة يركِّز الكاتب بحثه حول المسألة الآتية:
 
الأديان والظاهرة العالميّة
المسيحيّة والبوذيّة، من حيث إنّ
لهما ادّعاءات عالميّة، ديانتان تأثَّرت كلّ واحدة منهما ـ بشكل من الأشكال ـ بظاهرة العالميّة، وعمليّة العولمة، واضطرّتا أحياناً لإصدار بعض ردود الفعل حيالها. ولكن من حيث إنّهما لا تريان لنفسهما دوراً مباشراً وفاعلاً على الصعيد الاجتماعيّ، فإنّهما لا تُثيران الكثير من النقاش والجدل. إنّ التماشي والانسجام النسبيّ لهذين الدينيّن العالميَّين مع عمليّات (العلمنة)، أدَّيا إلى خفض مواطن الصدام مع الظاهرة العالميّة إلى أدنى المستويات.

على أنّ المسيحية تبقى على الرغم من خصوصيّتها الدينيّة وادّعاءاتها العالميّة، مختلفة ومنفصلة عن باقي الديانات؛ ذلك أن انتشار التفوق الغربيّ يعود لصالحها على كلّ حال، مع أنّ النزعة الفردانيّة والماديّة والعلمانيّة الكامنة في الظاهرة العالميّة، سوف تزعجهم عاجلاً أو آجلاً، وستسبِّب القلق لمسؤولي الكنيسة.

بينما الهندوسيّة والزرادشتيّة واليهوديّة والكونفوشيوسيّة، مع أنّها أديان متَّهمة ـ خلافاً للدينين السابقين ـ بالاهتمام بالدنيا، وتجمع أنصارها ومواليها، ولها ردود فعلها ـ مع بعض الفوارق ـ حيال الضغوط الخارجيّّة لتحطيم حالات المقاومة التعاليمية والتأثير في أتباعها، لكنها بسبب طابعها الوطني ـ القوميّ لم ولن تتعامل بقدر الأديان العالميّة الشموليّة، مع الوجوه المختلفة للظاهرة العالميّة.

مع أنّ وجه التهديد في مواجهة هذه الظاهرة موجود بالنسبة إلى كلّ الأديان، ولكن ـ بالنظر إلى النقاط المذكورة أعلاه ـ يبدو أنّ أعقد الحالات وأشدّ التأثيرات تظهر بين هذه الظاهرة (العالميّة) والإسلام، فالسِمَة العالميّة والشموليّة والفاعلة للإسلام أوجدت بانبعاثاته الجديدة، في الفترات المتأخّرة، طاقة متراكمة، وإمكانيّات عالية بين أتباعه، وخلقت توقُّعات واسعة منه، وهو ما يندر أن نجد له نظيراً بين الديانات الحيّة في العالم .
 
الإسلام والعالميّة
الإسلام من الأديان الفاعلة وصاحبة الادّعاءات في المجال الاجتماعيّ. وقد جعلته هذه السِمَة يتدخّل في الماضي التاريخيّ للبلدان الإسلاميّّة، ويعرض نماذج خاصّة تختلف عن الآخرين، لكنّها ليست حاسمة وقاطعة إلى درجةٍ لا تتأثّر معها بالأرضيّات الاجتماعيّّة المختلفة، ولا تبدي أي مرونة حيال الظروف التاريخيّة المتنوِّعة، ولا تترك عن تفسها أي تجارب؛ ذلك أنّ المبدأ الأساسيّ والخصيصة الضروريّة للدين الذي يدّعي العالميّة والخلود، يكمنان في هذه القدرة على التكيُّف. ويمكن إحراز قدرات التكيُّف لدى الإسلام من التدقيق في بعض خصائصه التعليميّّة، فضلاً عن الدراسات التاريخيّة والاستقرائيّة. هذا، رغم أنّ المسلمين ربّما لم يستفيدوا من كلّ هذه الإمكانيّات بصورة صحيحة، وحبسوا أنفسهم داخل أسوار التقليد والتحجُّر.

إنّ (العالميّة) لا تُعَدُّ ظاهرة غريبة ومقلقة لدين استطاع اجتياز تاريخ نموِّه وتطوّره في المجتمعات المختلفة بنجاح نسبي طوال خمسة عشر قرناً من الزمان، كما استطاع الحضور في الميادين العالميّة بحيويّة وحركيّة تفوقان ما كان له في الماضي.

إنّ هذه الظاهرة العالميّة تُعدُّ، بالنسبة إلى دين الإسلام العالميّ بقدراته الكبيرة على التكيُّف والتماشي مع المتطلّبات الخارجيّّة، صانعة فُرص، أكثر منها خالقة تهديدات ومخاطر. إذا كان هناك احتمالات أخطار في هذه التجربة، فهي غالباً نتيجة تقصير أتباع هذا الدين، أو ضعفهم، في الوعي الصائب لظروفه ومتطلّباته، من جهة، واكتشاف إمكانيّاته وقدراته واستخدامها المدروس والصحيح، من جهة أخرى، أكثر من كونها ثمرة للعالميّة كواقع خارجيّ.

وفي المقابل، ما تقدِّمه العالميّة للإسلام والمسلمين كلُّه فُرص قلّما توفّرت قبل هذا لمِشتاقي الحقائق الدينيّة. فالعالميّة، من حيث عولمة القضايا والآفاق، وتطوُّر الاتصالات، وفّرت للأديان الدعويَّة، من جهة، والأرواح المتعطشة للحقيقة، من جهة ثانية، إمكانيّات مؤهّلة، وظروفاً منقطعة النظير، لم تكن في السابق حتّى لتخطر في الأذهان  .
 
وعليه فإنّ العالميّة هي ظاهرة، إذا عُرِفَتْ وحُلِّلتْ بصورة صحيحة، واكتُشفت بضائعها وآلياتُها جيداً، لكانت مفيدة من كلّ النواحي لدِينٍ مثل الإسلام.

وقبل أن يختم المؤلِّف بحثه في موضوع الإسلام والعولمة، يُشير إلى أنّ تصاعد (الإقبال على الدين) الملاحظ في العقود الأخيرة، وتزامناً مع انتشار أمواج العولمة، له أسباب وخلفيّات متنوِّعة ابتداءً من الانفعاليّة المفرطة، وصولاً إلى الفاعليّة الراديكاليّة:

- الإقبال على التقاليد الدينيّة كأدوات هوية.
- الإقبال على المعنويّة الدينيّة كردّ فعل حيال عالِم غارق في المادة والاستهلاك.
- الإقبال على الدين بهدف التوفُّر على مشاريع بديلة لأسلوب الحياة ونموذج التنمية.

كلمة أخيرة
لقد أجاد المؤلِّف علي رضا شجاعي زند، في عرض آرائه حول . ولم يظهر مجرّد كاتب أو ناقل آراء ومقتبِس نظريات من بطون الكتب، ليُظهر نفسه باحثاً اجتماعياً. بل بدا لنا - من خلال مطالعتنا لكتابه - عالماً اجتماعيّاً، وتحديداً في فرع علم الاجتماع الدينيّ.

كما كان المؤلِّف موضوعيًّا، أعطى ما لقيصر لقيصر، وما لله لله، فلم يتجاهل أو يتغافل عن الأخطار التي يمكن أن تُحدق بالسلطة الدينيّة الحاكمة. وبسبب موضوعيته العلميّة ومبدئيَّته وإخلاصه لدينه ومجتمعه كان جريئاً في طرح آرائه ومعالجة مواضيع بحثه. من ذلك مثلاً، آراؤه في مواضيع حسَّاسة قد تسبِّب له بعض الإشكالات. من هذه المواضيع: انفصال رجال الدين عن الناس، وميل رجال الدين إلى الدنيا... كأنّي به كان يمشي في حقل ألغام، ولكنه أحسن اجتيازه بأمان عندما بيَّن أنّه يخشى على رجال الدين الحاكمين من أن تأخذهم مشاغل الحكم والغرق في تفصيلات الأمن والتنمية، بعيداً عن قواعدهم الأساسيّة بين الجماهير المؤمنة، في المساجد والمنابر. وهذا، إذا حصل - لا سمح الله - يؤدّي أو يساعد على علمنة المجتمع.
 
https://taghribnews.com/vdcbg8bazrhb89p.kuur.html
الإسم الثلاثي
البريد الإلكتروني
أدخل الرمز