خطيئة الجامعة العربية: مبادرة لحماية سوريا أم لتمزيقها؟
تنا ـ بيروت
إنها سابقة خطيرة لا يمكن تجاوزها أو القفز من فوقها، من دون أن يعني ذلك التسليم بالحملة الدموية التي تشهدها أنحاء عدة من سوريا، والتي تدفع بهذه الدولة المؤسسة للجامعة وذات الدور المميز تاريخياً إلى مخاطر مصيرية.
شارک :
يعيش العرب، في مختلف أقطارهم وعلى اختلاف انتماءاتهم السياسية، في خوف مقيم على سوريا وهم يشهدونها تنزف دولتها ووحدة شعبها، فضلاً عن دورها المتميز والذي لا بديل منه، فإذا بهم يفجعون بالسقوط المدوي لجامعة الدول العربية التي أثقلت كهولتها والخلافات العربية التي لا تكف عن التوالد دورها «الرمزي» فعطلته، ولكنها استفاقت فجأة، وكأنما بسحر ساحر، لترتكب يوم السبت الماضي خطيئة مميتة يستحيل غفرانها باتخاذها موقع «الطرف» في الصراع المحتدم بين النظام وقوى معارضة له.
لقد أطلقت الجامعة العربية النار ليس فقط على مبادرتها التي أمل العرب، عموماً، أن تشكل مدخلاً مقبولاً لوقف حمام الدم الذي يستولد مخاطر جدية على سوريا الدولة ووحدة شعبها، بل على «دور» الجامعة وعلة وجودها كمؤسسة قامت على التوافق والإجماع، ودأبت دائماً على تحاشي اتخاذ دور الطرف في أي صراع داخلي في أية دولة عربية.
وبمعزل عن الموقف من النظام، فإن موقف الجامعة كما عبّر عنه البيان الصادر
عنها يوم السبت الماضي، يشكل خروجاً على الأصول، أو على بديهيات دورها «التوفيقي»، وذلك في إشارتها المباشرة إلى القوات المسلحة في سوريا، والتوجه إليها ـ مباشرة ومن فوق رأس الدولة ـ العضو المؤسس للجامعة ـ بمطالب تتجاوز دور الجامعة بل وتكاد تنسف هذا الدور الذي أمل العرب أن يوفر المدخل إلى حل للأزمة التي تعصف بسوريا وجوارها حاملة في طياتها مخاطر جدية على «الإقليم» بدوله وشعوبه جميعاً.
إنها سابقة خطيرة لا يمكن تجاوزها أو القفز من فوقها، من دون أن يعني ذلك التسليم بالحملة الدموية التي تشهدها أنحاء عدة من سوريا، والتي تدفع بهذه الدولة المؤسسة للجامعة وذات الدور المميز تاريخياً إلى مخاطر مصيرية. أجامعة دول وتحرّض جيشاً لدولة على الخروج على دولته؟!
نفهم أن تورد المعارضة في بياناتها التحريضية مثل هذه الدعوة في سياق تأليبها مختلف القوى على الخروج على النظام، وأن تخص الجيش بنداءات تحرّض أفراده على الانشقاق والانضمام إلى المعارضة بذريعة أن رصاصه يقتل أهله..
لكننا لا نفهم أن تتوجه الجامعة العربية، كمؤسسة قامت على التوافق «والسير بخطى أضعفهم»، إلى جيش دولة مؤسسة، من فوق رأس هذه الدولة، تطالبه بالخروج على نظامه.
حتى حين ارتكب أنور السادات خطيئة الصلح المنفرد، موجهاً ضربة قاضية إلى قضية العرب المركزية، فلسطين، وخارجاً على إرادة الأمة، وفي الطليعة منها شعب مصر، لم توجه جامعة الدول العربية مثل هذه الدعوة إلى الجيش المصري للخروج على حاكمه الذي ارتكب ـ بحسب ميثاق الجامعة ـ ما يستوجب إدانته بل وتوقيع عقاب جماعي عليه... وكل ما فعلته هذه المؤسسة التي شكلت القضية الفلسطينية أبرز مبررات وجودها أن ارتحلت من مصر إلى تونس مستبدلة أمينها العام المصري بآخر من البلد المضيف المستجد، وكان تونسياً.
كذلك فقد مرت دول عربية عدة بمحن قاسية ولّدها الصراع على السلطة الذي كثيراً ما استدرج التدخل الأجنبي، وتمكنت الجامعة العربية من أن تحمي وجودها ـ برغم شحوب الدور ـ بموقف مبدئي، ربما لم يكن فعالاً، ولكنها بذلت جهدها لأن تظل قادرة على صياغة تسوية ما أو المساعدة على صياغتها.
ويعرف الجميع أن الجامعة العربية لا تملك بإمرتها جيوشاً جرارة، وأن شرط وجودها يقوم على الوساطة والتوسط ومساعدة الأطراف المعنيين على الوصول إلى «تسوية» قد يقبلها المعنيون على مضض ولكنهم يحاذرون أن يظهروا بصورة من يرفض الحل.. ولو كان أقل مما يرغب أو يتمنى أو يريد.
لهذا كله لم يتقبّل المواطن العربي هذا الموقف غير المسبوق، والأخطر أنه يعقّد الحل بدلاً من أن يقرّبه، ويستعدي النظام الذي يفترض أنه قد ذهب إليه للمساعدة على إخراجه من مأزقه بمبادرة عربية تهدف إلى حماية وحدة البلاد، وتسد الطريق على أي احتمال لتدخل أجنبي.
وفي الذاكرة بعد الموقف المشين الذي ارتكبته جامعة الدول العربية بإعطائها ترخيص مرور لقوى التدخل الأجنبي في ليبيا، وهو تدخل ستدفع ثمنه الدول العربية جميعاً، كما في حالة العراق... ولا يفيد التأكيد على الفوارق بين التدخل في ليبيا عنها في العراق إلا في إلحاق مزيد من الأذى بالجامعة العربية ودورها.
لا أحد يطالب هذه الجامعة العجوز بدور قيادي، أو ريادي، يملك قوة الحسم... لكن ثمة فارقاً خطيراً بين أن تعجز عن الحسم وبين أن تبرر أو تهرب من عجزها إلى النفخ في نار الفتنة أو تحريض الجيش على الانشقاق أو على التمرد بينما خطر الحرب الأهلية يتزايد ويكاد يصير داهماً.
ومن الصعب التكهن بنجاح مبادرة النظام بتجاوز ما ألحقه قــرار الجامعة العربية من أذى به، ومطـــالبته الجامــعة باستكــمال دورها في محاولة إنجاز مصــالحة وطنية شاملة تقفل أبواب الخطر المصيري وتوفر قاعدة لتسوية سياسية تؤكد وحدة سوريا الوطن والشعب والدولة عبر إصلاحات جذرية تكـــاد تكون شـــرطاً بديهـــياً للخروج من المأزق الخطير الذي تعيش سوريا في قلبه الآن وتدفع من مناعتها ومن استقرارها ومن حق شعبها في مستقبل أفضل كلفة ثقيلة جداً وبالدم.
على أن مهمة الجامعة تتمثل في أن تواصل جهودها، ليس فقط من أجل هدف نبيل كحــماية ســـوريا من المخاطر المصيرية التي تتهددها، بل أساساً من أجل حمــاية الجامعة ودورها الذي لا ينتبه إليه أحد إلا في الأزمات.
... وبرغــم كــل المآخـــذ ووجــوه التقصــير، فمــن الــواجب أن يشهــد اللبــنانيون لجــامعة الدول العــربية أنــها قـــد لعــبت دوراً مؤثـــراً في حماية وجود وطنهم الصغير، كـــدولة، برغم المصاعب والأهـــوال التي شهـــدها حين تحـــول إلى ساحة اتســعت للـــدول جميعاً، بأغراضــها ومصالحها وتناقــضاتها الهــائلة.
وحماية سوريا هي المهمة.. وما تبقى تفاصيل! طلال سلمان