لا شكّ أن الأحداث التي حصلت في العالم العربي، والتي أعادت خلط الأوراق في المنطقة، ستؤثر بشكل كبير على الصراع العربي - "الإسرائيلي"، لذا تعمل "إسرائيل" اليوم على إعادة تقييم استراتيجياتها في المنطقة للاستفادة مما أسمي زوراً "الربيع العربي"، وهو أبعد ما يكون عن الربيع بجماله وإشراقه ونوره، ويبقى الإرباك الأكيد للخطط "الإسرائيلية" هو استمرار صمود الحلف المقاوم تجاه الريح التي تعصف بالمنطقة، والتي ترمي إلى اقتلاع سورية من الحلف تمهيداً لإضعافه فتفكيكه، وإراحة "إسرائيل"، وحفظ أمنها واستقرارها في منطقة ملتهبة تعيش أزماتها الداخلية، وتغض الطرف عن فلسطين والقضية الفلسطينية.
وبدراسة الحالة "الإسرائيلية" اليوم وتقييمها نجد ما يلي:
أولاً: الساحة الفلسطينية: وفيها ضعف كبير إلى حد التهميش للأطراف الفلسطينية، فسقوط مبارك، وهو ما كان يعتبر الحليف الاستراتيجي الأقوى في ما يسمى "معسكر الاعتدال"، أضعف حركة فتح والسلطة الفلسطينية، وفي المقابل، فإن خروج حماس من سورية، وظهورها بمظهر المنقلب على تاريخها، وعلى دولة ممانعة أعطت القضية الفلسطينية الكثير وقدمت من أجلها التضحيات، قد أضعف حماس وأفقدها مصداقيتها أيضاً، وبضعف الأطراف الفلسطينية، تجد "إسرائيل" نفسها مرتاحة في سياساتها التهويدية والتهجيرية داخل فلسطين.
ثانياً: سورية: بالرغم من التصريحات الإسرائيلية المختلفة حول ضرورة التدخل العسكري الدولي في سورية، تعيش إسرائيل حالة قلق مما قد يحمله سقوط النظام السوري من تداعيات وفوضى على الساحة السورية، في ظل غياب بديل واضح للسلطة السورية، غير موجود لا واقعياً ولا في أذهان المخططين الغربيين للثورة السورية، وبالرغم من تسابق "الثوار" على خطب ودّ المجتمع الدولي، ومعه "إسرائيل"، لمساعدتهم للتخلص من النظام، لكن يبدو أنه ليس من أحد قادر على الإمساك بزمام الأمور وتشكيل بديل واعد للنظام القائم.
لذا، تسعى "إسرائيل" جاهدة لأن يكون الحل في سورية بأن يأتي حكم تابع يقيم معها علاقات ودية وطبيعية، وينهي تاريخ من الصراع المستمر، وإن تعذّر ذلك، فتفضل أن تحيّد سورية في الصراع العربي - "الإسرائيلي" بإغراقها بمشاكلها الداخلية والفوضى والإرهاب؛ كما حصل مع العراق.
ثالثاً، وهو الأهم، مصر: أ- تدرك "إسرائيل" أن "الإسلام السياسي" الواصل إلى الحكم في مصر لن يستطيع فتح جبهات متعددة داخلية وخارجية، فهو سيغرق في مشاكل اجتماعية واقتصادية هائلة، لا طاقة له على حلّها بمفرده، وسيحتاج إلى دعم دولي لتخطيها، لذلك لن يقوم بمسّ الاتفاقيات التي عقدتها السلطات المصرية سابقاً، وسيحافظ على كامب دايفد وغيرها، وسيقدم الكثير من التنازلات.
لكن تبقى بعض الهواجس "الإسرائيلية" بأن تدفع المشاكل الكبيرة في الداخل، وفشل الحكم المصري الجديد في مواجهتها، بأن يقوم بمحاولة الهروب إلى الأمام، فيصوّب على الصراع العربي - "الإسرائيلي"، كما فعل أسلافه، حين تهربوا من استحقاقات الداخل من ديمقراطية وعدالة وتنمية وحقوق إنسان باللجوء إلى شعارات "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة".
ب- ترتاح "إسرائيل" للإسلام السياسي الواصل إلى الحكم، والذي يحاول أن يقتدي بالنموذج التركي، فهي تعلم أن الأتراك وفي خضمّ حملاتهم السياسية "الإعلامية" المناهضة لـ"إسرئيل"، لم يقدموا على إلغاء أي من الاتفاقيات العسكرية أو الاقتصادية معها، ولم يلتحقوا بالالتحاق بالحلف المعادي.
ج- يظهر من حركة "الإخوان" الذي ينافسون للوصول إلى السلطة اليوم، أنهم مستعدون للسير بنفس السياسيات المصرية السابقة مع بعض عمليات الديكور التي تحفظ لهم ماء وجههم، ونذكر في هذا السياق، ما كشفته صحيفة "يديعوت أحرونوت" عن لقاء سري كان مقرراً عقده في واشنطن هذا الأسبوع بين مسؤولين في الكنيست وممثلين عن وفد برلماني مصري يضم نواباً من حزب "الحرية والعدالة" التابع لـ"الإخوان"، والذي ألغي بعد انكشاف أمره، وأوضحت الصحيفة أن قرار الإلغاء اتخذ بعد "النشر المبكر" عن اللقاء "الذي كان من المفترض أن يبقى سرياً"، واعتبر "الإسرائيليون" أن إلغاء اللقاء جاء "في ضوء حساسية الوضع المصري، خصوصاً في ما يتعلق بنواب البرلمان المنتمين لحركة الإخوان المسلمين".
لا يبدو هذا الأمر مستغرباً، فمنذ وصول "الإخوان" إلى الحكم في مصر، وهم يمارسون سياسة الازدواجية في كل مسيرتهم السياسية والإعلامية، تتجلى في: -سياسة إقصائية وتشدد في الداخل، مقابل براغماتية ومرونة في التعامل مع الخارج. -الحديث عن تشدد في تطبيق الشريعة في الداخل مقابل حديث عن دولة مدنية تعددية تحترم خصوصيات الجميع في الخارج.
-خطاب موجّه للداخل عن أهمية فلسطين، وأن "إسرائيل" خط أحمر بالنسبة إلى "الإخوان"، مقابل تصاريح أخرى "مصوّرة ومكتوبة" باللغة الإنكليزية، تتحدث عن حق "إسرائيل" في الوجود والعيش بأمان، بالإضافة إلى اللقاءات السريّة التي تعقد مع الإسرائيليين والتي قد يكون اللقاء الأخير الملغى أحدها وليس يتيماً.
في المحصلة، يكمن التخوف المشروع من أن بروز استفادة "إسرائيلية" من الحراك العربي الحاصل، والأخطر هو أن ينجح الغرب و"إسرائيل" في تحويل الصراع من صراع وجودي عربي - "إسرائيلي" إلى صراع طائفي سنّي - شيعي، فيحلّ العامل المذهبي والديني مكان العوامل القومية والوطنية، وتتحول إيران العدو بدل "إسرائيل"، وتعيش المنطقة حروب الآلهة على الأرض، ما يؤدي إلى تفتيتها وتقسيمها دويلات طائفية متناحرة، تبرر وجود دولة يهودية على أرض فلسطين، فتدفع فلسطين والفلسطينيون ثمن "ربيع" لم يبزغ فجره، ولا يبدو أنه سيحلّ في ربوعنا.