إذا كان هناك من دور خارجي مؤثر في الانتخابات الرئاسية الأميركية فهو حتماً العامل الاسرائيلي بالإيحاء في التمويل والضغط السياسي اكثر مما هو بالصوت اليهودي الاميركي الذي يقتصر بحجم محدود على ولايات متأرجحة انتخابياً مثل فلوريدا وبنسلفانيا.
قد يكون رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو اكثر القادة الاسرائيليين تأثيراً في تاريخ الانتخابات الرئاسية الاميركية، ويعود هذا الامر لخلفية توتر علاقته مع الرئيس باراك اوباما، ونظراً لإحكام سيطرته على السياسة الداخلية الاسرائيلية. تمحور هذا التوتر على المفاوضات الفلسطينية - الاسرائيلية التي اعتبرتها واشنطن إستراتيجية محورية لاستعادة زمام المبادرة في المنطقة.
التفاصيل معروفة: الحكومة الاسرائيلية تقر بناء وحدات استيطانية جديدة خلال زيارة نائب الرئيس الاميركي جو بايدن الى اسرائيل في آذار ٢٠١٠ وفي الشهر ذاته ترك اوباما نتنياهو وحيداً في اروقة البيت الابيض ليتناول العشاء مع عائلته، متوقعاً من الوفد الاسرائيلي افكاراً جديدة بعد عودته.
في فترة لاحقة استعاد اوباما فكرة الانسحاب الاسرائيلي الى ما وراء حدود العام ١٩٦٧ عشية زيارة نتنياهو الى واشنطن في أيار ٢٠١١، فأمضى نتنياهو كل هذه الزيارة في محاولة ناجحة لإجهاض الفكرة من بوابة الكونغرس.
ليست المرة الاولى التي يتحدى فيها رئيساً ديموقراطياً. فعلها نتنياهو سابقاً مع الرئيس الأسبق بيل كلينتون في التسعينيات ودفع ثمن هذا الامر حينها بخروجه من الحكم، لكن نتنياهو الآن اكثر تماسكاً في الداخل الاسرائيلي.
في النهاية توصل كل من اوباما ونتنياهو الى نتيجة مفادها ان علاقتهما كـ«زواج سيئ» قدره الاستمرار، وبالتالي عليهما التعامل مع هذا الواقع.
كأن اوباما اقتنع انه في حال فوزه بولاية ثانية عليه التعاون مع نتنياهو الذي سيطغى على السياسة الاسرائيلية في المدى المنظور، ونتنياهو اقتنع، لأسباب داخلية اسرائيلية، انه لا يفيده التوتر مع اقرب حلفاء اسرائيل، وأن التوتر مع واشنطن قد ينعكس على تحالفه الحكومي. والتطور الداخلي الذي كان مريحاً لواشنطن هو دخول «كاديما» الى الحكومة الاسرائيلية، والرهان في واشنطن على ان يجعل هذا الامر نتنياهو اكثر مرونة في التعامل مع المفاوضات الفلسطينية والتمهل في مغامرة توجيه ضربة عسكرية لإيران.
اول مفاعيل هذا التحول توجه نائب رئيس الوزراء الاسرائيلي شاؤول موفاز الى واشنطن بداية الاسبوع المقبل لإجراء مباحثات مع المسؤولين الأميركيين.
لنتنياهو علاقة معقدة مع الولايات المتحدة التي امضى فيها سنوات متقطعة بين فيلادلفيا وبوسطن. كان يخاف خلال هذه الفترة القصيرة أن لا يكون مقبولاً اميركياً، وفعل بالتالي كل ما بوسعه ليتأقلم لدرجة تغيير اسم عائلته من «بين نيتاي» الى «نتنياهو». وخلال بداية حياته السياسية أقر بأنه أقدم على هذا الامر ليسهل على الاميركيين لفظ اسم عائلته، فاتهمه منافسوه حينها بأنه يفتقد الوفاء لهوية إسرائيل.
كان نتنياهو نائب رئيس البعثة الاسرائيلية في واشنطن بين العامين ١٩٨٢ و١٩٨٤، اي في فترة صعود المحافظين وبروز نجومية الرئيس الجمهوري الراحل رونالد ريغان. نقل عنه الدبلوماسي الاسرائيلي ألون بينكاس قوله بأنه «يتحدث الاميركية بلهجة جمهورية»، وهناك مؤشرات تدل على انه اقرب الى المرشح الجمهوري ميت رومني.
خلال الانتخابات الرئاسية التمهيدية في الحزب الجمهوري تباهى رومني بأنه يعرف نتنياهو جيداً وأنهما عملا معاً في «مجموعة بوسطن الاستشارية»، كما قال رومني في كلمته امام «ايباك» قبل فترة إن نتنياهو «ليس صديقاً فقط، هو صديق قديم».
نتنياهو حاول تقليل اهمية هذه العلاقة في محاولة للابتعاد عن السباق الرئاسي الاميركي وصرح لمجلة «فانيتي فاير»، لعددها في تموز المقبل، عن علاقته برومني «اتذكره بالتأكيد، لكن لا اعتقد أنه كان لدينا اي روابط خاصة. أعرفه ويعرفني، افترض».
لكن هل فعلاً نتنياهو بعيد كل البعد عن انتخابات واشنطن هذا الخريف؟ أحد ابرز اقطاب اندية القمار في مدينة لاس فيغاس، شيلدون أديلسون، اجتمع الشهر الماضي على مدى ساعة مع رومني، من دون تسريب اية معلومة عن هذا اللقاء. بعدها صرح أديلسون انه سيوفر مبلغ ١٠ ملايين دولار على الأقل للجنة العمل السياسي «استعادة مستقبلنا» التي تدعم حملة رومني، ومصادره لمحت لمجلة «فوربس» بأن تمويله لرومني سيكون «بلا حدود» شرط هزيمة اوباما «مهما تطلب الأمر»، لا سيما ان ثروته تصل الى ٢٥ مليار دولار ويأتي في المرتبة الثامنة بين اثرياء العالم. اللافت ايضاً بالامس هجوم السيناتور الجمهوري جون مكاين على تمويل أديلسون لحملة رومني، معتبراً أنه «مال أجنبي»، في اشارة الى ان مصدر ثروة اديلسون يأتي من الكازينو الذي يملكه في ماكاو في الصين. وقال مكاين في تصريح لقناة «بي بي اس» العامة إن تمويل اديلسون حجمه كبير ولا بد من التدقيق في الامر.
نفوذ اديلسون في اسرائيل قد يكون اقوى من نفوذه في اميركا، فهو بدأ بجريدة «يسرائيل حايوم» (اسرائيل اليوم) التي احدثت صدمة في الاعلام الاسرائيلي كونها توزع مجاناً، وهي تصب في خانة نتنياهو بالمطلق. المعروف عن اديلسون انه لا يحب الاضواء، على جدول اعماله قضيتان رئيسيتان: أمن اسرائيل فوق كل اعتبار وضرورة القضاء على النقابات العمالية، وبالتالي يعتبر ان اوباما وضع أمن اسرائيل في خطر ولديه ميول «اشتراكية» قريبة من الاتحادات النقابية، كما يرفض اديلسون بالمطلق حل الدولتين مع الفلسطينيين، ويرى نفسه رمزاً محافظاً يرد على دور ابرز اثرياء الليبراليين جورج سوروس الذي ساهم عبر السنوات في تمويل معارك الديموقراطيين. لا يوجد دليل ملموس على ان اديلسون يتصرف بإيحاء من نتنياهو، لكن على الاقل هناك الكثير من المؤشرات إلى ان نتنياهو يفضل غير اوباما في البيت الابيض وأوباما يفضل غير نتنياهو على رأس الحكومة الاسرائيلية.
كبير مستشاري اوباما، ديفيد اكسلرود، انتقد تمويل ايدلسون لحملة رومني معتبراً انها «مصدر قلق كبير» ومؤكداً أن إدارة اوباما ستقر اصلاحات في النظام المالي الانتخابي في حال فازت بولاية ثانية، كما اشار الى ان ٩٨ في المئة من التمويل الفردي لحملة اوباما تحت مبلغ ٢٥٠ دولار.
لكن سبق لأوباما ان سمح لاثنين من مساعديه السابقين بجمع التبرعات تحت شعار لجان العمل السياسي، اي ضرب بعرض الحائط دعوته للاصلاح الانتخابي بحجة ان معركة الرد على رومني تستوجب ذلك. وحتى «بوليتيكو» ذكرت بالامس انه لم يستجب لنداءات منذ شهر شباط الماضي لإصلاح لجنة الانتخابات الفدرالية ولم يصدر قراراً تنفيذياً لمنع المتعاقدين الفدراليين الذين يحصلون على اموال دافعي الضرائب من «التدخل» او التبرع في الحملات الانتخابية. كل هذه العوامل تشير الى ان اوباما قبل بـ«شروط اللعبة» التي وضعتها المحكمة الدستورية العليا في العام ٢٠١٠، وسمحت بإنشاء لجان العمل السياسي من دون سقف تمويل لتؤدي الى تغيير المعادلة الانتخابية، وبالتالي قررت حملة اوباما خوض المنافسة على هذا الاساس. وستكون على الارجح المعركة الرئاسية الاكثر كلفة وشراسة في التاريخ الاميركي. صحيفة السفير- جو معكرون