ستون سنة عمل الغرب بسياسة في الشرق الأوسط، تقوم على تثبيت أنظمة الحكم الاستبدادية، التي تحرم المواطنين من حقوقهم الأساسية، وتضطهدهم كلما حاولوا الاحتجاج وتزج بهم في السجون
شارک :
وكالة أنباء التقریب (تنا) : بنهاية عهد حسني مبارك، خسر قسم الملابس الرجالية في متجرKDW الشهير في برلين والذي يقارن بمتجر(هارودز) بلندن، زبونا شهيرا.
وقد فاتحني أكثر من عامل في هذا القسم أن الرئيس المصري المخلوع حين كان يزور ألمانيا، كان يطل على هذا القسم لشراء ما يجعله يبدو أنيقا. كذلك فإن السفير المصري في برلين كان من ضمن واجباته زيارة هذا المتجر باستمرار لشراء قمصان ورابطات عنق لتزويد الرئيس بها حيث ثمن القطعة منها يوازي راتب خمسة موظفين حكوميين في مصر، وهذا ما لم يكن يزعج مبارك لأن العدالة الاجتماعية بالنسبة له مجرد حبر على ورق. مثل هذه السلوكيات لم يكن الإعلام الألماني يشير لها بشكل مباشر أو غير مباشر لأن مبارك كان حليفا وثيقا لألمانيا والغرب، لذلك غض ،حملة شعارات الديمقراطية والحريات في هذه الدول عبر ضفتي المحيط الأطلسي، النظر على تصرفاته واضطهاده شعبه وحرمانه من حقوقه الأساسية، في المقابل كان مبارك مثلما فعل الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي، يقنع الغرب أن بقاءه في منصبه يضمن قبل كل شيء أمن إسرائيل من خلال الالتزام باتفاقية كامب ديفيد، ثم محاصرة الإسلاميين المتطرفين.
ستون سنة عمل الغرب بسياسة في الشرق الأوسط، تقوم على تثبيت أنظمة الحكم الاستبدادية، التي تحرم المواطنين من حقوقهم الأساسية، وتضطهدهم كلما حاولوا الاحتجاج وتزج بهم في السجون وكأن هذا حقها الأساسي، واليوم يرى الغرب أن هذه الاستراتيجية لم تعد تصلح، في عصر جيل الفيسبوك والإنترنت ولم توفر له الأمن وإنما العار لأنها كشفت أنه يعمل بسياسة المكيالين وأن غضه النظر عن حصول الشعوب العربية على الحريات، يضر اليوم بسمعته وبمصالحه.
وحين قرر الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١ مخالفة القانون الدولي ومواثيق الأمم المتحدة، بحجة أن الانتقام لضحايا هذه الهجمات يضمن له ذلك، وجد في مبارك أحد حلفائه في هذا الخرق وتعاون معه في خطف مواطنين مصريين وضربهم وحبسهم دون التحقيق معهم وإنما فقط للاشتباه بأنهم يتعاملون مع الإرهاب.
للدلالة على ذلك هناك إمام ميلانو(أبو عمر) وناشر من أسرة خفاجي يعيش في مدينة ميونيخ الألمانية كان يتواجد في البوسنة. بدلا من أن ينتصر بلدهم لهم تركهم لمصيرهم واليوم يعيشان أبرياء بعدما ذاقا الذل والهوان على أيدي الجيش الأمريكي.
ما من مكان في العالم، ينجلي فيه بكل وضوح، تعامل الغرب بسياسة المكيالين مثلما عليه في الشرق الأوسط ولعقود طويلة. لا يحرك ضمائر السياسيين والأحزاب والمواطنين(باستثناء قلة) كون هناك ١،٥ مليون فلسطيني يعيشون في أكبر سجن في العالم صنعته إسرائيل في غزة.
بالنسبة لهم حين يتحدث الغرب عن الحريات والديمقراطية فإنه ينافق نفسه قبل أي طرف آخر. بالذات فإن أقرب حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة هم الذين ارتكبوا جرائم ضد شعوبهم بما في ذلك الشعب الفلسطيني. حتى الآن تحصل مصر على مساعدات عسكرية أمريكية قيمتها ١،٥ مليار دولار سنويا، ويستفيد الجيش المصري منها شرط التزامه عدم تهديد أمن إسرائيل، وكذلك صناعة السلاح الأمريكية.
خلال ثورة التغيير في مصر، حلقت طائرات هليكوبتر عسكرية وطائرات أف-١٦ فوق رؤوس المتظاهرين في ميدان التحرير وكذلك تمركزت أمام الميدان دبابات أم-٦٠ وهي للمناسبة نفس طراز الدبابات التي يستخدمها الجيش الإسرائيلي في فرض حصاره منذ سنوات على قطاع غزة.
ولن ينسى التونسيون أنه حين كان بن علي يترنح على وشك سقوط نظامه على أيدي الشعب، عرضت وزيرة الخارجية الفرنسية ميشيل أليوت- ماري عليه إرسال وحدة البلطجية الفرنسية لإجهاض الثورة، وهذا يكشف كيف أن البعض في الغرب ينظر إلينا بعيون استعمارية وكأن العالم العربي ما زال ساحة له يمرح فيها كما يشاء.
أمن إسرائيل والسكوت عن ممارساتها التعسفية خاصة في قطاع غزة كما فعل النظام المصري في خلال العدوان الصهيوني على أهلنا في غزة عام ٢٠٠٩ وضمان حركة الملاحة في قناة السويس وإخماد صوت الإسلاميين، من الخدمات الكثيرة التي قدمها مبارك مقابل أموال طائلة ضمنت له ٧٠ مليار دولار في أرصدة بالخارج.
ويقول المعلق الألماني ياكوب أوغشتاين إن الغرب وإسرائيل استخدما سبلا مناهضة للقانون الدولي وغير أخلاقية من أجل تشجيع مبارك لحماية مصالحهما وذلك على مدى ثلاثة عقود احتفظ بمنصبه بحجة قانون الطوارئ، دون أن يحتج أحد في الغرب على سلوكه أو الدعوة لانتخابات حرة نزيهة وغض النظر على انتهاكات حقوق الإنسان وتصفية المعارضين السياسيين، على الرغم أن الغرب كان يعرف أنه يتضامن مع إسرائيل في دعم وحماية نظام فاسد، يزور العمليات الانتخابية واحدة تلو الأخرى، لا يردعه أحد في القضاء على معارضيه السياسيين، واستخدامه كافة السبل المجرمة لمعاقبة من ينهض لتحدي مصالحه.
قبل أسبوع تجمع صناع القرارات السياسية والأمنية من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في ميونيخ للمشاركة في مؤتمر الأمن الذي خيمت عليه التطورات في مصر ولم يطلب أحد منهم بمن فيهم المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ووزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون و٣٥٠ شخصية متواجدة، من مبارك التنحي عن منصبه رغم علمهم أن هذا هو المطلب الرئيسي للمتظاهرين.
الآن يعلم الغرب أن مرحلة شراء (الهدوء) المزعوم في الشرق الأوسط قد انتهت. ربما الإطاحة الشعبية برئيسي تونس ومصر والاحتجاجات الشعبية في الجزائر واليمن والأردن بداية انتفاضة في العالم العربي. إن التطورات في المنطقة العربية ستجبر الغرب على إعادة النظر بسياساته فيها مثلما أجبرته الأحداث في أوروبا الشرقية قبل عشرين سنة على أن يعيد خلط أوراقه. هذه المرة على عكس موقفه تجاه شعوب أوروبا الشرقية لم يقف الغرب لجانب الشعوب العربية وإنما لجانب الأنظمة المستبدة التي بدأت تنهار مثل حجارة الدومينو.
الشعب العربي في تونس ومصر قال كلمته، دون عون من الرئيس الأمريكي المسلم الأصل باراك أوباما، ودون المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، إحدى بنات ثورة الألمان الشرقيين عام ١٩٨٩ التي أدت إلى انهيار جدار برلين، ودون فاكلاف هافل، الرئيس التشيكي السابق، الذي قضى سنوات كسجين سياسي،وإنما أشعل الثورة العربية شاب تونسي بسيط اسمه محمد بوعزيزي"رحمه الله" في سيدي بوزيد، وشباب جيل الفيسبوك في مصر منهم وائل غنيم ورفاقه، تسلحوا بالحكمة والعلم وأتوا بفقرهم عاقدين العزم على الإطاحة بالنظام وعمل ما لم يفلح به آباؤهم وأجدادهم، وقد يتبعهم شباب آخرون مثلا في غزة حيث نشروا على أحد المواقع الإلكترونية رسالة إلى الغرب تقول: نريد الحصول على الحرية، والعيش حياة كريمة عادية، نريد السلام، هل نطالب بالكثير؟
على مدى ستة عقود هي عمر إسرائيل على أرض فلسطين، حتى اليوم ما زال الغرب يشعر أنه غير مسؤول عن تحقيق مطالب شباب فلسطين.