أسماعٌ تطرب لصراخ الأطفال، وعيون تتلذّذ برؤية أشلاء الرُّضّع، وصُورٌ لجنودٍ تُلتقطُ بجوار جثامين ضحايا لم يشهدوا من عوالم الحياة إلا قليلاً، وساسة وإعلاميون يتباهون بنشوتهم حين تكثر أعداد القتلى من صغار السن.. كل هذه النماذج لم تجتمع إلا في كيان الاحتلال الذي يشن حربًا مجنونة على كل مظاهر البراءة في قطاع غزة، وفي القلب منها النساء والأطفال.
شارک :
يمكنك مطابقة هذه الحالات مع ما حدث في حي الشجاعية شرق مدينة غزة؛ حيث استُشهد 8 مواطنين، بينهم 5 أطفال وامرأتان، في قصف إسرائيلي استهدف مدرسة ابن الهيثم التي تأوي نازحين، في مشهد صار اعتياديًّا، لا يمرُّ يومٌ دون تكراره.
عامٌ كاملٌ لم يشهد العصر الحديث مثله في حجم الدمار الذي وقع على قطاع غزة، وفي تعداد الشهداء الأطفال الذين لا يُخفي الاحتلال تعمُّد استهدافهم، بدعوى أنهم “مشروع إرهابيين”؛ حيث كان الأطفال هم الهدف الأول لعدوان الاحتلال، كونهم يمثّلون -وفقًا لما يراه قادة ونخبة إسرائيل- نبتةً لاستمرار شجرة المقاومة الممتدة في كل ربوع فلسطين.
قرابة 17 ألف طفلٍ استُشهدوا في مئات المجازر التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي يوميًّا في قطاع غزة، بينهم 2100 رضيع ممن تقل أعمارهم عن عامين، وذلك منذ أن شنّ جيش الاحتلال عدوانه على غزة في السابع من أكتوبر الماضي.
قتل وحشي
ويقول المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان إن عدد الأطفال الفلسطينيين، سواء الأطفال الرُضع أو الأطفال عمومًا، الذين قتلهم الجيش الإسرائيلي مفزع وغير مسبوق في التاريخ الحديث للحروب، ويعبر عن نمط خطير وقائم على نزع الإنسانية عن الفلسطينيين في قطاع غزة باستهدافهم وأطفالهم على نحو متعمد ومنهجي وواسع النطاق دون توقف منذ عشرة أشهر، وبأكثر الطرق وحشية وأشدها فظاعة.
وأكد المرصد في بيان له أن العديد من الأطفال كانت تقطعت رؤوسهم وأعضاء أجسادهم بفعل القصف الإسرائيلي شديد التدمير على تجمعات المدنيين، وبخاصة المنازل والمباني والأحياء السكنية ومراكز الإيواء وخيام النازحين قسرًا، بما يشكل انتهاكًا صارخًا لقواعد التمييز والتناسب والضرورة العسكرية واتخاذ الاحتياطات اللازمة.
وأبرز المرصد الحقوقي أن الجيش الإسرائيلي يمتلك تكنولوجيا متطورة، وهو يعلم في كل مرة يستهدف فيها منزلًا أو مركز إيواء من داخله من المدنيين، بمن فيهم الأطفال والنساء، ومع ذلك يقصفها بصواريخ وقنابل ذات قدرة تدميرية كبيرة، متعمدًا بذلك إحداث أكبر قدر ممكن من الخسائر في أرواح المدنيين وإحداث الإصابات الشديدة، بدلالة النمط المتكرر والمنهجي وواسع النطاق للاستهداف الإسرائيلي للمدنيين في قطاع غزة، والأسلحة شديدة التدمير والعشوائية، وبخاصة ضد المناطق ذات الكثافة السكانية المدنية المكتظة.
ودلّل الأورومتوسطي على وحشية الاحتلال باستشهاد الطفلين الرضيعين “آسر” و”آيسل محمد أبو القمصان”، الشهر الماضي، وهما توأمان لم يتجاوز عمرهما الأربعة أيام؛ حيث قُتلا صباح يوم الـ 13 من أغسطس/آب 2024، مع والدتهما “جمان” وجدّتهما، في قصف إسرائيلي استهدف شقة سكنية في دير البلح وسط قطاع غزة.
وأشار إلى أن والد الطفلين كان خرج لاستخراج شهادة ميلاد لطفليه حديثي الولادة، وعاد إلى الشقة ليجدها مدمرة وجميع أفراد أسرته، بالإضافة إلى الجدة، قتلوا باستهداف إسرائيلي مباشر على المنزل.
قهر الآباء
وذكر الأورومتوسطي أن طفلين رضيعين آخرين؛ “وسام” و”نعيم أبو عنزة”، وعمرهما ستة أشهر، قتلا كذلك مع والدهما و11 من أفراد العائلة في غارة نفذها الطيران الإسرائيلي على حي “السلام” في رفح جنوب قطاع غزة في 3 مارس/آذار.
وأفادت “رانيا أبو عنزة”، والدة الطفلين، أنها أنجبت الرضيعين بعد عشر سنوات خاضت خلالها محاولات تلقيح عدة وزراعة داخل الرحم، لتحقق حلمها في أن تصبح أمًا، قائلة: “زرعوا لي 3 أجنة، بقي منهم اثنان، وها هما ذهبا. بعد عشرة أيام من مقتلهما، كانا سيتمان الستة أشهر. قصفوا الدار، زوجي وأولادي والعائلة قتلت في المجزرة.”
وأبرز إفادة “عبد الحافظ النجار” (42 عامًا) والد الطفل “أحمد” الذي قطع رأسه وقتل مع ثلاثة من أشقائه ووالدتهم وعدد كبير من الضحايا في مجزرة إسرائيلية استهدفت نازحين في الخيام في منطقة “البركسات” غرب رفح جنوبي القطاع في 26 مايو/أيار الماضي، حيث قال لفريق الأورومتوسطي: “طفلي أحمد كان شكله جميلًا جدًا، عمره عام ونصف، قُطع رأسه في القصف الإسرائيلي، كان رأسه مفصولًا عن جسده، عندما شاهدته شعرت بالقهر، لقد دفن بدون رأسه”.
كما ذكر الأورومتوسطي حالة السيدة “شيماء الغول”، والتي كانت حاملًا في الشهر التاسع عندما تعرض منزلها في مدينة رفح جنوب قطاع غزة للقصف في 12 فبراير/شباط الماضي، ما أدى إلى مقتل زوجها وابنيها “محمد” و”جنان”، وأصيبت هي بشظية في بطنها وصلت إلى الجنين.
وأفادت “الغول” أن زوجها “عبد الله أبو جزر” كان أعد لها “التمر والحلوى وشنطة الميلاد فرحًا بمولوده المُنتظر قبل أن يُقتل مع طفليه.” وذكرت أنها وضعت طفلًا أسمته “عبد الله”، تيمنًا باسم والده، لكنه عاش يومًا واحدًا، إذ توفي متأثرًا بإصابته بالشظية، لتفقد أطفالها الثلاثة مع زوجها.
منع الرعاية الطبية
وأكد الأورومتوسطي أن العشرات من أطفال الأجنة كانوا قتلوا في المستشفيات نتيجة انقطاع الأكسجين والكهرباء وغياب الرعاية واستهداف المستشفيات على مدار الأشهر العشر الماضية.
وأشار إلى أن حالات وفاة تسجل يوميًّا في صفوف الأطفال الرضع كنتيجة مباشرة للجرائم التي تأتي ضمن أفعال جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في القطاع، وبخاصة التجويع والتعطيش ومنع وعرقلة إدخال المساعدات الأساسية، كالحليب، والحرمان من الرعاية الصحية، وأغلب هؤلاء لا يسجلوا ضمن أعداد الضحايا المعلن عنها من وزارة الصحة الفلسطينية، لعدم وجود آلية محدد لاعتماد هذا النوع من الضحايا.
تمدير ممنهج
وقال المرصد الحقوقي إن إسرائيل مستمرة بقتل الآلاف من الرجال والنساء الفلسطينيين في قطاع غزة، معظمهم في سنواتهم الإنجابية، ومنهم كذلك النساء الحوامل، وآلاف من الأطفال، بمن في ذلك الأطفال الرضع. ومما لا شك فيه أن عمليات القتل المنهجية وواسعة النطاق التي ترتكبها إسرائيل ضد المدنيين الفلسطينيين، الذين بلغت نسبتهم 92% على الأقل من مجموع عدد القتلى لجريمة الإبادة الجماعية، والبالغ نحو 50 ألف فلسطيني وفلسطينية، بينهم الآلاف تحت الأنقاض، بالإضافة إلى جرح وإصابة حوالي 88 ألفًا أخرين، سيكون لها تداعياتها السلبية على معدلات النمو السكاني والقدرة الإنجابية لدى الفلسطينيين في قطاع غزة، ولأجيال قادمة، وسيترك عواقب خطيرة على الفلسطينيين كمجموعة قومية وعرقية لعدة أجيال، وذلك وفقًا للمعنى الوارد بخصوص أفعال الإبادة الجماعية بموجب المادة (2) من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية.
كما أنه ونتيجة للتدمير واسع النطاق الذي لحق بالأعيان المدنية في قطاع غزة، بما في ذلك المنازل والممتلكات الخاصة ومصادر الرزق والإنتاج والنظام الاقتصادي والتجاري الذي تعمد الجيش الإسرائيلي إحداثه وإخضاع السكان لظروف معيشية يراد بها تدميرهم وإفقارهم، فقد خسر معظم أطفال قطاع غزة بيوتهم، وأمنهم الاقتصادي الخاص بهم وبعائلاتهم، إلى جانب حرمانهم من التعليم، وهو ما سيكون له آثار خطيرة على مستقبلهم وقدرتهم على تمتعهم بحقوقهم الأخرى، ويجعلهم أكثر عرضة للفقر والبطالة والاستغلال، وأقل قدرة على الإسهام في إعادة بناء المجتمع الفلسطيني في القطاع بعد انتهاء الهجوم العسكري الإسرائيلي، وبالتالي دفع الفلسطينيين للهجرة القسرية بشكل مباشر وغير مباشر.
وقال الأورومتوسطي إن هذه الجرائم لن تنتهي آثارها بانتهاء الحرب، وستبقى تلازمهم طوال حياتهم، وهذه من أبرز أهداف جريمة الإبادة الجماعية الإسرائيلية تجليًّا. فهناك الآلاف من الأطفال الذين فقدوا آباءهم و/أو أمهاتهم، والآلاف من الأطفال الذين بترت أطرافهم وتعرضوا لدرجات خطيرة من الحروق وإصابات أخرى خطيرة، كما تعرضت الغالبية العظمى من الأطفال لصدمات نفسية قد يصعب علاجها، فيما يعاني غالبية الأطفال من الجوع وسوء التغذية والجفاف، الأمر الذي سيؤثر سلبًا على نموهم في المستقبل وعلى قدراتهم الجسدية والعقلية والتعليمية.
شرعنة القتل
ومع صعود اليمين المتطرف داخل الكيان الإسرائيلي، صار استهداف الأطفال مصحوبًا بفتاوى الحاخامات اليهود بوجوب قتل الأطفال الفلسطينيين، والتي (الفتاوى) بدأت تأخذ طريقها للعلن خلال هذه الحرب، ومع تصدر اليمين المتطرف لدائرة صنع القرار.
فقد نقلت صحيفة هآرتس الإسرائيلية عن الحاخام يسرائيل روزين، رئيس معهد تسوميت وأحد أهم مرجعيات الإفتاء لدى اليهود، فتواه التي سبق أن أصدرها في 26 مارس 2007 بأنه «يتوجب تطبيق “حكم عملاق” على الفلسطينيين؛ حيث إن الرب كلف بني إسرائيل بعد ذلك بشن حرب لا هوادة فيها ضد العماليق”، وتلا روزين الحكم الذي يقول: «اقضوا على عملاق من البداية حتى النهاية.. اقتلوهم وجردوهم من ممتلكاتهم، لا تأخذكم بهم رأفة، فليكن القتل متواصلاً.. شخص يتبعه شخص، لا تتركوا طفلاً، لا تتركوا زرعًا أو شجرًا، اقتلوا بهائمهم من الجمل حتى الحمار”.
سادية الجنود
هذا التوجه النخبوي لدى كيان الاحتلال، سواء من جهة قادة عسكريين أو ساسة وأكاديميين أو من جهة حاخامات يفتون يوجوب قتل الأطفال، دفع بجنود الاحتلال إلى البحث عن أطفال لكي ينكلوا بهم قتلا أو اغتصابا أو تعذيبًا، وبدا أن هذا السلوك لدى جنود الاحتلال صار مدعاة للفخر والتباهي وإظهار الإنجاز الوهمي في السعي للقضاء على الأجيال الفلسطينية.
وأظهرت عدة مقاطع مصورة لجنود يعلنون فيها أنهم قاموا بقتل أطفال وبحثوا عن آخرين ليقتلوهم، ويتعمدون إعلان الحديث وسط ضحكات استهزاء ولا مبالاة بما يرتكبون من جرائم بحق الأطفال، وبما يخالفون من قواعد القانون الدولي أو حتى الأعراف الإنسانية.