هذا ما كان يدعو إليه الامام الصادق (ع ) في توجيهه لشيعته في علاقتهم بالمسلمين الآخرين: "صِلوا عشائرهم، واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وأدّوا حقوقهم، فإنَّ الرّجل منكم إذا ورع في دينه، وصدق الحديث، وأدَّى الأمانة، وحسَّن خلقه مع النَّاس، قيل هذا جعفريّ، فيسرّني ذلك"... "كونوا زيناً لنا ولا تكونوا شيناً علينا"...
ألقى السيّد علي فضل الله، في الخطبة الأولى لصلاة الجمعة :بعنوان الصَّادق(ع): رائد العلم وإمام الحوار قال الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}[الأحزاب: ٣٣].
صادق القول والحديث
في الخامس والعشرين من شهر شوَّال، نلتقي بذكرى وفاة إمامٍ من أئمّة أهل البيت(ع)، هو الإمام جعفر بن محمّد الباقر، وقد لُقِّبَ بالصَّادق، لأنّه عُرِفَ في حياته ـ كما عُرِفَ رسول الله (ص) ـ بصدق الحديث والقول..
عاش الصّادق(ع) في كنف جدِّه الإمام زين العابدين(ع)، فتعلَّم منه الصّبر وثبات الموقف، وأقام مع أبيه الإمام الباقر(ع)، الّذي كان مقصداً للعلماء والمحدِّثين، فأسّس معه جامعةً إسلاميّةً ملأت الدّنيا بآثارها العلميّة.
وخلال تصدّيه للإمـامة، استفاد الصّادق(ع) من الظّروف السياسيّة لتلك المرحلة، حيث انتقلت الخلافة من الحكم الأمويّ إلى الحكم العباسيّ، وكان الحكّام في خلالها مشغولين عن ممارسة الضّغط على الإمام(ع) كما مارسوه على آبائه وأجداده من قبل..
مواجهة الانحراف
استلمَ الإمامُ الصادق(ع) زمام الأمور، وانطلق ليواجهَ ما كان يعتبره أولويَّةً في تلك المرحلة، ألا وهو تركيز القواعد الصَّحيحة للفكر الإسلاميّ الأصيل، بعدما اعترت المراحل السَّابقة انتكاسات ألمّت بفكر المسلمين وعقيدتهم من الداخل، أو من خلال علاقتهم بأفكار الآخرين بعد الفتوحات الإسلاميّة وتواصلهم مع بقيّة الحضارات.
واجه الإمام الصّادق(ع) الانحراف الفكريّ والفقهيّ والعقيديّ، وحتّى الانحراف على مستوى المفاهيم وفهم القرآن، فدرس الأسباب، وتصدَّى لها بكلّ الوسائل، وبدأ بمعالجة مشكلة تراكم الكمِّ الهائل الّذي دخل على الموروث من الأحاديث والأحكام، والّذي حصل إمّا نتيجة الجهل والتخلّف، أو من فعل الّذين أرادوا تسويق أفكارهم المنحرفة وآرائهم المغلوطة، فدسّوا ما دسّوه من الأحاديث المكذوبة وغير الصّحيحة.
بدأ الإمام الصَّادق(ع) ثورته العلميَّة التَّصحيحيَّة، فسعى إلى نشر الأحاديث الصَّحيحة بشكلٍ واسعٍ، فملأت أحاديثه الكتب، ثم حدَّد القاعدة الّتي تساعد على تصحيح الأحاديث، وهي: العودة بكلِّ الأحاديث إلى القرآن الكريم، فكان(ع) يقول: «ما جاءك من روايةٍ من برٍّ أو فاجرٍ يوافق القرآن فخذ به، وما جاءك من روايةٍ من برٍّ أو فاجرٍ يخالف القرآن فلا تأخذ به».. وفي كثيرٍ من الرّوايات كان يقول: «ما خالف قول ربِّنا لم نقله».
كانت حركة الإمام الصّادق(ع)، في خطّ تنقية الأحاديث وتبيان المفاهيم وبلورتها، حركةً مركّزةً امتدّت أربعاً وثلاثين سنةً هي مدّة إمامته، حتّى طُبِع الإسلام على خطّ أهل البيت(ع) باسمه، وصار يُنسب إليه، فيما الواقع أنّه كان يعبِّر عمّا جاء به رسول الله(ص)، ولم يكن مذهباً خاصّاً به. وقد ورد عنه(ع) قوله: «حديثي حديث أبي(الباقر)، وحديث أبي حديث جدّي (زين العابدين)، وحديث جدّي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين( الامام علي )، وحديث أمير المؤمنين هو حديث رسول الله(ص)، عن الله سبحانه».
وقد عبَّر الشَّاعر عن ذلك بقوله:
ووالِ أناساً قولهم وحديثهم روى جدّنا عن جبرئيل عن الباري
مقصد العلماء
وكان مسجد الكوفة مقرّ حركة الإمام الصّادق(ع)، وكان مقصداً لكلّ طلاب العلوم، وخصوصاً الدّينيّة منها، على تنوّع مذاهبهم وأفكارهم وآرائهم. وفي هذا يقول أحد علماء الحديث والرّواية، الحسن بن علي الوشا الكوفي: "أدركت في هذا المسجد (مسجد الكوفة في العراق) تسعماية شيخٍ (أي أستاذ)، كلّ يقول: حدّثني جعفر بن محمّد"..
وفي ذلك ذكر الشّيخ المفيد(رض)، الّذي عاش في القرن الرّابع للهجرة، وهو من العلماء القريبين من عصر الإمام المهديّ(عج): "نقل النّاس عن الإمام الصّادق(ع) من العلوم ما سارت به الرّكبان، وانتشر ذكره في البلدان، ولم ينقل عن أحدٍ من أهل بيته العلماء ما نقل عنه، ولا لقي أحد منهم من أهل الآثار ونقلة الأخبار كما نقلوا عن الإمام الصّادق(ع)".
وتروي كتب السّيرة، أنَّ أبا حنيفة النّعمان، وهو إمام المذهب الحنفيّ، تتلمذ على يديه، وكان يقول: "لولا السَّنتان لهلك النّعمان"، ويقصد السَّنتين اللَّتين عاشهما في جامعة الإمام الصَّادق(ع). وكان يقول: "أعلم النَّاس أعلمهم باختلاف النَّاس"، والإمام الصَّادق(ع) هو الأعلم باختلاف النَّاس وتنوّع آرائهم. ولذلك كان الإمام الصّادق(ع) إماماً للمسلمين جميعاً بكلِّ تنوّعاتهم وآرائهم وأفكارهم.
كان مسجد الكوفة معلماً علميّاً جامعاً، فلم يكن الاختلاف في الرّأي الفقهيّ أو العقيديّ سبباً للانفصال والتَّباعد، بل أراده الإمام(ع) مكاناً للتَّواصل، فما يجمع أكثر وأهمّ بكثيرٍ مما يفرِّق، وتقريب المسافات لن يحصل من دون تلاقٍ وحوارٍ علميّ جادّ. ولذا أكَّد من خلال سيرته ضرورة وجود معاهد دينيّة تدرَّس فيها كلّ المذاهب.
ونحن نؤكِّد أهميَّة أن تنفتح الحوزات والمعاهد الدّينيَّة، بحيث يتعرَّف المسلمون، ولا سيَّما العلماء منهم، آراء بعضهم بعضاً، فلا يحاكمون بعضهم بعضاً ـ كما يحصل الآن ـ دون ان يطّلعوا بشكل دقيق على آراء الآخرين.
العلاقة مع الآخر
هذا ولم يكتف بذلك، بل كان الإمام الصَّادق(ع) حريصاً على تربية النَّاس، كلّ النَّاس، على ضرورة التّواصل، مؤكِّداً حقَّ كلِّ إنسانٍ في أن يلتزم بما يؤمن به من مذهبٍ أو رأيٍ اجتهاديّ، ولكن شرط أن يكون بعيداً عن التعصّب وهاجس إلغاء الآخر، وهذا ما كان يدعو إليه في توجيهه لشيعته في علاقتهم بالمسلمين الآخرين: "صِلوا عشائرهم، واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وأدّوا حقوقهم، فإنَّ الرّجل منكم إذا ورع في دينه، وصدق الحديث، وأدَّى الأمانة، وحسَّن خلقه مع النَّاس، قيل هذا جعفريّ، فيسرّني ذلك"... "كونوا زيناً لنا ولا تكونوا شيناً علينا"...
وفي عهده، واجه الإمام الصَّادق(ع) الزَّنادقة والملحدين، وكانوا قد بدؤوا يشكِّلون ظاهرةً مَرَضيّةً في المجتمع الإسلاميّ، واجههم بالحوار ثمّ الحوار، فكان (ع) إمام الحوار، كان يجلس في بيت الله الحرام ليحاور المثقَّفين الكبار في ذلك العصر من العلمانيِّين، الَّذين كان الكثيرون منهم ينكرون الإسلام والأديان كلَّها. كان الإمام الصَّادق(ع) يجلس إليهم بعقلٍ مفتوح، وصدرٍ واسع، ليستمع إليهم بكلِّ هدوء، حتَّى في الحالات الّتي كان فيها كلامهم قاسياً وساخراً. ووصل الأمر إلى أن يأتي رجلٌ ملحدٌ إلى الإمام الصَّادق(ع) ليتحدَّاه فيقول: هل يستطيع ربُّك أن يدخل الدّنيا في بيضةٍ فلا تصغر الدّنيا ولا تكبر البيضة! قال له الإمام (ع): "يا هشام، فانظر أمامك وفوقك، وأخبرني بما ترى؟". فقال: "أرى سماءً وأرضاً ودوراً و قصوراً وبراري وجبالاً وأنهاراً". فقال له الإمام(ع): "إنّ الذي يدخل الذي تراه العدسة أو أقل منه، قادرٌ أن يدخل الدنيا كلها البيضة، لا تصغر الدنيا ولا تكبر البيضة".
مجابهة الغلوّ والفساد السياسيّ
وفي خطٍّ موازٍ، كانت عين الإمام(ع) على خطرٍ لا يقلّ عن خطر الَّذين ينصبون العداء للإسلام ولخطِّ أهل البيت(ع)، وهو خطر الغلوّ، حيث وقف الإمام بكلِّ قوّةٍ في وجه الغلوّ الّذي كان يقول فيه: "ما النّاصب لنا حرباً بأشدّ علينا مؤونةً من النّاطق علينا بما نكره". وقد قال(ع) لأحد الغلاة الّذين كانوا يعطون للأئمّة(ع) صفات الألوهيّة، وهو صالح بن سهل: "إنّا والله عبيد مخلوقون، لنا ربّ نعبده، وإن لم نعبده عذّبنا"..
وإلى جانب كلّ مسؤوليَّاته في حماية الفكر والعقيدة، لم يغمض الإمام الصَّادق(ع) عينيه عمَّا كان يجري حوله، فواجه الواقع السياسيّ آنذاك، من خلال موقعه القويّ، برفض مجاملة الحاكم الظَّالم، وهذا ما حصل عندما قال له المنصور العباسيّ: "لِمَ لا تغشانا كما يغشانا النّاس؟"، قال(ع): "ليس لنا من أمر الدُّنيا ما نخافك من أجله، ولا عندك من أمر الآخرة ما نرجوك له، ولا أنت في نعمةٍ فنهنئك، ولا في نقمةٍ فنعزِّيك". فقال المنصور: "تصحبنا لتنصحنا"، فقال له الإمام(ع): "من يريد الدّنيا لا ينصحك، ومن أراد الآخرة لا يصحبك"..
وكان(ع) يؤكِّد ضرورة الوقوف في وجه الظَّالم، وهو القائل: "العامل بالظّلم والرَّاضي به والمعين له شركاء ثلاثتهم"، وكان(ع) يقول: "ما من مظلمةٍ أشدّ من مظلمةٍ لا يجد صاحبها عليها عوناً إلا الله عزّ وجلّ".
وقد جاء عنه(ع): "أوحى الله عزّ وجلّ إلى نبيٍّ من أنبيائه في مملكة جبّارٍ من الجبّارين، أن ائت هذا الجبّار فقل له: إنّني لم أستعملك على سفك الدّماء واتخاذ الأموال، إنما استعملتك لتكفّ عنّي أصوات المظلومين، فإنّي لن أدع ظلامتهم وإن كانوا كفّاراً".
الحياة الرّساليّة
وإمامنا الصَّادق، أيّها الأحبَّة، والَّذي كان القمَّة في العلم والموقف، كان كأجداده: العابد لله، والعامل في خدمة النَّاس، التّواضع رداؤه، والكرم ومحبّة النّاس عنوانه. ومما يُروى، أنّه كان إذا اعتمّت السّماء، وذهب من اللّيل شطره، أخذ الصّادق(ع) جراباً فيه خبز ولحم، فحمله على عاتقه، ثم يذهب به إلى أهل الحاجة ليقسّمه بينهم، وهم لا يعرفونه، فلمّا توفّي الصّادق(ع) فقدوا ذلك، فعلموا أنّه كان منه(ع).
وكان(ع) يقول لخادمه وقت اشتداد الظّروف الاقتصاديَّة على النَّاس: "اشتر لنا شعيراً فاخلطه بهذا الطّعام، أو بعه، فإنّا نكره أن نأكل جيّداً ويأكل النّاس رديّاً".
هذا هو الإمام الصّادق(ع)، أيّها الأحبّة، حياة متحرّكةً رساليّة.. لم يرض من أصحابه وأتباعه القول بل العمل، فلطالما قال: "كونوا دعاةً لنا بغير ألسنتكم"، "كونوا لنا دعاةً صامتين".. فقالوا له: يا بن رسول الله، كيف ندعو لكم ونحن صامتون، قال: "تعملون بما أمرناكم به من العمل بطاعة الله، وتتناهون عن معاصي الله، وتعاملون النَّاس بالصِّدق والعدل، وتؤدّون الأمانة، وتأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، ولا يطّلع النّاس منكم إلا على خير، فإذا رأوا ما أنتم عليه، علموا أفضل ما عندنا، فتنازعوا إلينا"..
الشِّيعة، أيّها الأحبَّة، هم الَّذين يلتزمون أهل البيت(ع) سلوكاً وفكراً وعملاً وجهاداً، هم الصَّادقون، هم الأمناء، هم الواعون، هم المطيعون لله، هم الخاشعون عندما يقفون بين يديه. فهل نكون على صورة أئمَّتنا(ع)؟ الجواب بأيدينا، فلا نبكهم دموعاً ونخذلهم سلوكاً في ساحة الحياة.. والسّلام عليه يوم وُلِد ويوم انتقل إلى رحاب ربّه ويوم يبعث حيّاً.