"الحمد لله فاطر الأشياء إنشاءً ـ فهو سبحانه الذي خلقها وأنشأها ـ ومبتدعها ابتداعاً بقدرته ـ فهي تمثّل سرَّ الخالق في كلِّ ما أبدعه ـ وحكمته ـ لأنَّ الله تعالى عندما يخلق الأشياء فإنَّه يخلقها بالحكمة ليضع عناصرها التي تمثّل خطوط وجودها في موقعها، حيث تتكامل عناصر الخلق لتحقّق الهدف المراد منها
شارک :
وكالة انباء التقريب (تنا) : العلامة الراحل آية الله سيد محمد حسين فضل الله (رض)
ونحن عندما نبتعد عن الإمام الرضا(ع) بهذه القرون، نعمل على أن نعيش معه في زيارتنا له عندما نسلّم عليه ونخاطبه ونتوسّل إلى الله تعالى أن يشفّعه فينا، ونعمل أيضاً على أن نزوره زيارةً من نوع آخر، زيارة إلى فكره، لأنَّ إمامته(ع) في معناها الرساليّ، تنفتح على ما أعطاه من فكر في توضيح أحكام الإسلام ومفاهيمه وتأصيل قواعده وتحريك حركته في الواقع.. وهذا هو الذي يبقى لنا من عظمائنا عندما تغيب أجسادهم في التراب وتبقى رسالاتهم كالشمس تضيء لنا في كلِّ يومٍ روحاً من روح الله، ووحياً من وحيه، وحركةً في أحكامه وشرائعه ومفاهيمه. ولهذا، لا بدَّ لنا مع الرسل والأنبياء ومع كلِّ الأئمة(ع)، ألاَّ نستغرق في شخصياتهم دون رسالاتهم، وإن كانت شخصياتهم لا تختلف عن رسالتهم، باعتبار أنهم يمثّلون التجسيد للرسالة، وهم فقدوا الإحساس بأجسادهم وذواتهم وذابوا في الرسالة.
رسالة التوحيد في زمن الإمام الرضا(ع)، اختلف الناس في أصول التوحيد وخطوطه، بعد أن دخلت الآراء الفلسفية إلى الواقع الإسلامي وتنوّعت المفاهيم، فيُوضح(ع) هذا المفهوم في ما ينقله عنه محمد بن زيد قال: "جئت إلى الرضا(ع) أسأله عن التوحيد، فأملى عليَّ وكأنَّ الإمام(ع) أراد أن يسجّل ما يقوله ليبقى منهجاً للناس في التوحيد، كما يجب أن يتصوّره الناس ويعتقدوه، مما كان الإمام(ع) ينتزعه من القرآن انتزاعاً : "الحمد لله فاطر الأشياء إنشاءً ـ فهو سبحانه الذي خلقها وأنشأها ـ ومبتدعها ابتداعاً بقدرته ـ فهي تمثّل سرَّ الخالق في كلِّ ما أبدعه ـ وحكمته ـ لأنَّ الله تعالى عندما يخلق الأشياء فإنَّه يخلقها بالحكمة ليضع عناصرها التي تمثّل خطوط وجودها في موقعها، حيث تتكامل عناصر الخلق لتحقّق الهدف المراد منها ـ لا من شيءٍ سابق فيبطل الاختراع ـ لم يخلقها من شيءٍ سابق عليها فيبطل الاختراع، فالله تعالى يخترع (يخلق) المادة والصورة معاً، وليس كمثل الذين يعملون على اختراع الصورة من خلال المادة والنماذج التي كانت سابقة على اختراعهم، فتكون اختراعاتهم نسخاً عن المثال، فالله عزَّ وجلّ يخلق المادة والصورة معاً، لأنَّه مخترع الأشياء في عناصرها كلِّها ـ ولا لعلّة ـ لسبب يسبقها ـ فلا يصحّ الابتداع، خلق ما شاء ـ فبمشيئته كان الخلق ـ كيف شاء ـ وبمشيئته كانت الصورة والتنوّع ـ متوحِّداً بذلك ـ فليس له شريك في ذلك كلِّه ـ لإظهار حكمته ـ من خلال طبيعة هذا التناسق والأسرار التي تتمثّل في عناصر الأشياء ومكوّناتها ـ وحقيقة ربوبيّته ـ لأنَّه هو الذي يربّي الأشياء وينمّيها ويحرّكها كيف شاء ـ لا تضبطه العقول ـ لأنَّ العقول لا تملك الآلية التي يمكن من خلالها أن تحصل على معرفته وعلمه المطلق، لأنَّه سبحانه هو المطلق الذي لا حدَّ له.
ومهما كانت سعة تأملات العقل واتساع تجربته، فإنَّه لا يمكن أن يتصوّر المطلق، لأنَّ له حدوداً لا بدَّ أن يقف عندها ـ ولا تبلغه الأوهام ـ لأنَّ الأوهام التي تمثّل بعض منطقة الوعي الداخليّ للإنسان، لا تملك الوسائل التي تستطيع بها أن تبلغ مقام ربِّها ـ ولا تدركه الأبصار ـ لأنَّه ليس جسماً ليُرى، وليس مادّةً تقع تحت إمكانية الرؤية ـ ولا يحيط به مقدار ، لأنَّه فوق المقدار الذي يمثّل المحدود، والله هو المطلق الذي لا حدَّ له في أيِّ شيء، فكيف يمكن لمقدَّر أن يقدِّر ما لا يُحصى؟ ـ عجزت دونه العبارة ـ لأنَّ الكلمات تمثّل المعاني التي يمكن للإنسان أن يعبّر عنها، وهي الأمور التي يتصوّرها في تأمّلاته، أو التي يعيشها في تجاربه، والله سبحانه وتعالى فوق ذلك، فلا يمكن أن تحيط به العبارة ـ وكَّلت دونه الأبصار ـ سواء كانت أبصار العيون أو أبصار القلوب ـ وضلّ فيه تصاريف الصفات ـ فعندما يريد الإنسان أن يصرّف وينوّع في صفات الله، فإنَّه سوف يدخل في متاهات كثيرة، لأنَّه لا يستطيع تحديدها بشكل دقيق ـ احتجب بغير حجاب محجوب، واستتر بغير سِتْرٍ مستور ـ والناس عندما يحتجبون عن بعضهم البعض، والأشياء عندما تحجب عن بعضها البعض، فإنَّها تُحجب من خلال سِتْر وحجاب .
أما الله سبحانه وتعالى فإنَّه يحتجب من غير حجاب، وذلك من خلال طبيعة وجوده الذي لا يملك أحدٌ أن يتطلّع إليه أو يراه ـ عُرف بغير رؤية ـ لأنَّه تعالى عُرِف بالعقل وبخلقه، على اعتبار أنَّ الخلق يدلُّ على الخالق ـ وُوصِف بغير صورة ـ فنحن نصف الله بالخالق والرازق والقويّ والحكيم وما إلى ذلك، مما تدركه عقولنا في معنى صفة الله ـ ونُعِتَ بغير جسم ـ لأنَّ الإنسان عندما ينعت(يصف) المرئيات، فإنَّه ينعتها من خلال ملامح الجسم الموجود، لكنَّ الله سبحانه يُنعت بغير جسم ـ لا إله إلا هو الكبير المتعال"(٢٣).
وفي بعض أحاديثه(ع) عن العباس بن هلال، قال: "سألت الرِّضا(ع) عن قول الله: {اللهُ نورُ السمواتِ والأرض} [النور:٣٥] فما هو المقصود من النور؟ هل هو النور الماديّ كما هو نور الشمس مثلاً، أم هو النور المعنوي؟ إنَّ الإمام الرضا(ع) يرى بأنَّ المقصود من النور، هو النور الذي يضيء العقول والقلوب والأرواح والحياة كلَّها، وهو هنا النور المعنوي فقال: "هادٍ لأهل السماء وهادٍ لأهل الأرض"، أي أنَّه سبحانه وتعالى يضيء طريق الهدى في عقولهم وحياتهم وكلِّ شؤونهم وأوضاعهم، به يهتدون من خلال ما أودعه في أسرار وجودهم، أو مما ألهم به عقولهم.
وفي رواية (البرقي): "هدى لأهل السماء وهدى لأهل الأرض". وعن الحسن بن الوشاء عن أبي الحسن الرضا(ع) قال: "سألته، فقلت: الله فوّض الأمر إلى العباد؟ ـ أي هل أنَّ الله سبحانه وتعالى خلق الناس، وقال لهم إنّي فوّضتُ لكم شؤون حياتكم ولا دخل لي بذلك، أي عزل نفسه تعالى عن التدخّل في شؤون العباد؟ وهذه هي نظرية التفويض التي كانت موجودةً في الواقع الفلسفيّ والكلامي آنذاك، قال: اللهُ أعزُّ من ذلك {فلله العزّة جميعاً} [فاطر:٢٠] ـ فعندما يعطي عباده الاختيار، فإنَّه يملك أن يضبطهم ويردعهم، حيث تبقى هيمنتُه على الأمر كلِّه من خلال ما أودعه في الكون وفي حياة الناس من سُنَن، ومن خلال قوّته التي تشمل كلَّ شيء ـ فجبرهم على المعاصي؟ ـ هل أنَّ الله يتدخّل في شؤونهم بشكل مباشر، بحيث إنهم إذا عصوا، فإنَّهم يعصون على أساس أنهم مجبورون على المعصية، لأنَّه لا حرية لهم ولا اختيار في ذلك، لأنّ الله سبحانه هو المسيطر على الأمر كلِّه ـ قال: الله أعدل وأحكم من ذلك ـ فالله تعالى لا يمكن أن يجبر الناس على المعاصي ويعاقبهم على ذلك، لأنَّ الحكيم المطلق لا يفعل ذلك ـ ثم قال: قال الله تعالى: يابن آدم، أنا أولى بحسناتك ـ لأنَّ حسناتك انطلقت من العناصر الإيجابيّة التي أودعتُها في وجودك، فلقد أعطيتك العقل الذي تدرك به الحسن من القبيح، كما وتدرك به نتائج الأفعال السلبيّة والإيجابيّة، وقد أعطيتك الحواس التي تستطيع أن تحصل من خلالها على مفردات المعرفة كلِّها، وقد أوحيت إليك بالوحي الذي يعرّفك ما لا يستطيع أن يدركه عقلك وحسُّك، وقد أعطيتك الوسائل التي تدرك بها وتطيع، فأنا أولى بحسناتك منك، فهي وإن انطلقت من إرادتك، لكن ما حقّق لك هذه الإرادة، ما هو من فضل ربِّك الذي دعاك وشجّعك وألهمك وأعطاك الوسائل في تحقيق ذلك ـ وأنت أولى بسيئاتك مني، عملت المعاصي بقوّتي التي جعلت فيك"، لأنّي عندما أعطيتك القوّة والإرادة، حذّرتك من السيئات، وأوحيت إليك بالوسائل المعنويّة والماديّة التي تبتعد بها عن السيئات، ولكنَّ سوء الاختيار هو الذي جعلك تعمل هذه السيئات.
وعن عبد العزيز بن مسلم قال: "سألت الرّضا(ع) عن قول الله عزَّ وجلّ، {نَسُوا اللهَ فنسيَهُم} [التوبة:٦٧]، فقال(ع): "إنَّ الله لا ينسى ولا يسهو، وإنَّما ينسى ويسهو المخلوق المحدَث، ألا تسمعه عزَّ وجلّ يقول: {وما كان ربُّك نسِيّاً} [مريم:٦٤]، فالنسيان هو غيبوبة الشخص عن الوجدان والوعي ـ وإنَّما يجازي من نسيه ونسي لقاءَ يومه بأن ينسيهم أنفسهم ـ ونسيهم يعني أهملهم، أي جازاهم على نسيانهم له من خلال نسيانهم لمسؤولياتهم ومقام ربِّهم، فتعامل معهم كتعاملهم مع بعضهم البعض عندما ينسى أحدُهم الآخر، وذلك بأن يهمله ولا يعتني به ـ كما قال الله عزَّ وجلّ: {وَلا تكونوا كالذين نسوا اللهَ فأنساهُم أنفسَهُم أولئك هُمُ الفاسقون} [الحشر:١٩] فالإنسان عندما ينسى مسؤولياته، يكون قد نسي ربه ونسيَ مصلحته وقال تعالى: {فاليوم ننساهُم كما نسوا لقاءَ يومهم هذا} [الأعراف:٥١]"، أي فتركهم كما تركوا الاستعداد للقاء يومهم. فالنسيان عندما يُنسب إلى الله في هذا المجال فهو يعني الإهمال لهم.
وعن الحسن بن عليّ بن فضّال قال: "سألت الرضا(ع) عن قول الله عزَّ وجلّ: {كلاّ إنَّهُم عن ربِّهم يومئذٍ لمحجوبون} [المطففين:١٥] وهذا مما ينافي العقيدة، إذ كيف يمكن أن يكون هناك شيءٌ محجوبٌ عن الله، فبحسب المعنى المطابقي أو اللغوي للكلمة، فإنَّ هؤلاء محجوبون عن الله سبحانه وتعالى، أي لم يعد يراهم فقال(ع): "إنَّ الله تعالى لا يوصَف بمكانٍ يحلّ فيه فيحجب عنه فيه عباده، ولكنه يعني أنهم عن ثواب ربِّهم محجوبون" ـ أي محجوبون عن رحمة الله ولطفه وأجره ـ قال: وسألته عن قول الله عزَّ وجلّ: {وجاء ربُّك والمَلَكُ صفّاً صفّاً} [الفجر:٢٢] فقال: "إنَّ الله لا يُوصَفُ بالمجيء والذهاب، تعالى عن الانتقال ـ فالذي ينتقل من مكانٍ إلى آخر هو الجسم، والله تعالى ليس بجسم ـ إنَّما يعني بذلك: وجاء أمرُ ربِّك والمَلَكُ صفّاً صفّاً"، لأنَّ الله يتمثّل في يوم القيامة بمواقع قوّته، فكأنّه يهيمن عليها من خلال أمره وعظمته وهيمنته.
تجدّد القرآن كان القرآن الكريم هو الأساس في منهج أهل البيت(ع)، وتأتي السّنّة في خطه: {ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} [الحشر:٧]، والقرآن هو الذي يؤصِّل لنا مفاهيم السُّنّة، ومن هنا، فإنَّ الحديث عندما يأتينا، فإننا يجب أن نعرضه على القرآن، فما وافق كتاب الله نأخذ به، وما خالفه ندعه.. وفي هذا يقول الإمام الرِّضا(ع) في ما ينقل بعض أصحابه، وهو (الريان بن الصلت)، قال: "قلت للرضا(ع): ما تقول في القرآن؟ فقال: كلام الله فلا تتجاوزوه ـ أي قفوا عنده وادرسوه وتدبّروه وخذوا منه مفاهيم الفكر في العقل، وخذوا منه خطوط الحركة في الواقع، ومناهج الحركة في ما تتحرّكون به في هذا العلم أو ذاك ـ لا تطلبوا الهدى في غيره فتضلّوا"، فهو الهدى والنور، وإذا انفتحتم عليه وعرفتم كلَّ معانيه، فإنَّكم سوف تعرفون الهدى مشرقاً منيراً مضيئاً، أما إذا تجاوزتموه إلى غيره، فقد ترون ظلماتٍ بعضها فوق بعض.
ويقودنا الإمام الرضا(ع)، كما يقودنا الأئمة من أهل البيت(ع) في كلِّ أحاديثهم إلى القرآن الكريم. وقد جاء في حديث أحد أصحابه أنه قال: "سمعت إبراهيم بن العباس يحدّث عن الرضا عن أبيه موسى بن جعفر، أنَّ رجلاً سأل أبا عبد الله: ما بال القران لا يزداد عند النشر والدراسة إلا غضاضةً؟ ـ أي إلاَّ جِدَةً، فهو قد نزل قبل عشرات القرون، ونحن نقرأه بعد كلِّ هذه القرون، فما بالُنا، وهو كتابٌ قديمٌ استهلك الناس قراءته ودراسته، فما بالُنا نشعر أننا عندما ندرسه، فكأننا ندرس شيئاً جديداً علينا لم نقرأه من قبل ـ فقال(ع): لأنَّ الله لم يُنزله لزمان دون زمان ـ ذلك أنَّ القرآن هو كتاب الله الذي يعيش مع الزمن كلِّه، ومن هنا، فقد اختزن القرآن بإيحاءات معانيه وفي الآفاق التي يمكن أن ينفتح ويطل عليها، ما يمكن له أن يخاطب أهلَ كلِّ جيلٍ بقضاياهم ومشاكلهم ـ لأنَّ الله لم ينزله لزمانٍ دون زمان ولا لناسٍ دون ناس ـ فقد خاطب الناس كلَّهم: {يا أيُّها النّاس اتقوا ربّكم} [الحج:١]، {يا أيّها الناسُ إنَّا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى} [الحجرات:١٣]، وخاطب المؤمنين في كلِّ زمانٍ ومكان: {يا أيُّها الذين آمنوا}، لم يخاطب الناس في زمنه، ولم يخاطب المؤمنين في زمنه ـ فهو في كلِّ زمانٍ جديد، وعند كلِّ قومٍ غضّ حيويّ إلى يوم القيامة".
ومن خلال ذلك، لا بدَّ عندما نقرأ القرآن وندرسه، أن نستوحيه في كلِّ ما يستجدُّ في حياتنا، لنقف عند آفاقه حتى تنفتح على آفاقنا، فلا نقرأ القرآن في الأحداث التي عاشت في عهد الرسالة الأولى وحسب، بل نقرأه من خلال تلك الأحداث على أساس أن تكون هذه الأحداث أحداث الحياة وليست أحداث زمنٍ معيّن أو موقع معيّن. وبهذا نستطيع أن نتحرّك بالقرآن وأن يحرّكنا القرآن، وأن نحرّك القران في كلِّ واقعنا.
إنّـا له لحافظون قال عليّ بن محمّد بن موسى الرازيّ: حدّثني أبي قال: ذكر الرضا(ع) يوماً القرآن فعظّم الحجة فيه ـ يعني ما احتجّ الله به على عباده في كلِّ ما لله فيه الحجة {فلله الحجّة} [الأنعام:١٤٩] على جميع خلقه، واحتجَّ به على الكافرين والمشركين والمنافقين ـ والآية والمعجزة في نظمه ـ يعني في أسلوبه ـ وقال: هو حبل الله المتين وعروته الوثقى وطريقته المثلى المؤدي إلى الجنّة ـ باعتبار أنَّ من أخذ به استطاع أن يكتشف طريق الجنّة في كلِّ ما يخطّطه القرآن للإنسان ـ والمُنجي من النار لا يَخْلَق ـ يعني لا يبلى ـ على الأزمنة، ولا يفت على الألسنة، لأنَّه لم يُجعل لزمانٍ دون زمان، بل جُعِل دليلَ البرهان والحجّة على كلِّ لسان: {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه} [فصّلت:٤٢] ـ وهذه الكلمة تشير إلى أنَّ القرآن لا يمكن أن يُنسب إليه التحريف، سواء من حيث الزيادة أو من حيث النقصان.
وعلى هذا الأساس، فما يُنسَب إلى شيعة أهل البيت(ع) بأنَّهم يرون تحريف القرآن، فإنَّ ذلك مما يكذّبه حديث أئمتهم(ع) ـ {لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خلفه تنزيلٌ من حكيم حميد} [فصّلت:٤٢]، وهكذا نرى كيف يعظّم أهل البيت(ع) القرآن، وكيف يريدون من الناس جميعاً أن يكون النورَ الذي يُشرق في عقولهم، والهدى الذي يتمثّل أمام عيونهم، والمنهج الذي ينتهجونه في كلِّ ما يريدون الوصولَ إليه، والطريق المستقيم الذي يقود إلى الجنّة وينجي من النّار.
وهذا هو الذي يفرض على المسلمين، ولا سيّما أتباع الأئمة من أهل البيت(ع)، أن تكون الدراسات القرآنية في موقع القلب في الدراسات الإسلامية، في عملية فهم وتدبّر واستنطاق لمفاهيمه من خلال ظواهره، على أساس القواعد الثابتة لفهم النص في اللغة العربية في تنوعاتها البلاغية، وأن لا يُسمح لأصحاب الاتجاهات الفكرية والمذهبية الخاصة في أيّ شأن من الشؤون الثقافية أن يفرضوا أفكارهم ومذهبيّاتهم على القرآن في عملية تأويل يخرج به النص عن القاعدة الظهورية في فهمه أو في الاستناد إلى بعض الروايات غير الموثوقة سنداً أو متناً مما وضعه الواضعون، فإن مسألة القرآن من أخطر المسائل في العقيدة الإسلامية وفي التشريع الإسلامي، فلا يجوز لأي شخص أن يلعب فيه بالوسائل المنحرفة عن القاعدة الأصيلة. وسوف تسقط كل تلك التجارب أمام النور القرآني الذي يضيء غيره ولا يحتاج إلى شيء يضيء معانيه.