في ذكرى مولد من ( ولدته في حرم الإله وأمنه** والبيت حيث فناؤه والمسجد) الامام علي (ع)
غيض من فيض مما وصف و قيل في الامام علي (ع)
تنا-خاص
الامام علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كِلاب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، ابن عمّ النبي -عليه الصلاة والسلام.ولادة الامام علي بن أبي طالب وروي عن الفاكهي أنّ علياً كان أول من وُلد في جوف الكعبة من الهاشميين، وقال الحاكم بتواتر الأخبار في ولادة علي في الكعبة.
شارک :
ولدته في حرم الإله وأمنه** والبيت حيث فناؤه والمسجد
في ليلة غابت نحوس نجومها** وبدت مع القمر المنير الأسعد
ما لف في خرق القوافل مثله** إلا ابن آمنة النبي محمد
لم تعرف الدنيا رجلاً جمع الفضائل ومكارم الأخلاق - بعد الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم - كالإمام أمير المؤمنين عليه السلام، فقد سبق الأولين، وأعجز الآخرين، ففضائله أكثر من أن تحصى، ومناقبه أبعد من أن تتناهى، ولقد كانت أخلاقه قبساً من نور خلق النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم الذي تربى في حجره وعاش على مائدة مكارم أخلاقه، حتى شب عن الطوق، واكتملت رجولته، حيث كان يتولاه بالمواعظ والآداب العظيمة، فتنامت أخلاقه شموخاً، وسجاياه علواً ورفعةً، وظلت فضائله وأخلاقه ومكارمه حية متألقة في روحه حتى فارق الدنيا.
فهو ابن عم الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، وأول من لبَّى دعوته واعتنق دينه، وصلّى معه، وهو أفضل هذه الأمة مناقب - بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم - وأجمعها سوابق، وأعلمها بالكتاب والسنة، وأكثرها إخلاصاً لله تعالى وعبادة له، وجهاداً في سبيل دينه، فلولا سيفه لما قام الدين، ولا أنهدت صولة الكافرين.
والحديث عن علي بن أبي طالب عليه السلام طويل، لا تسعه المجلدات، ولا تحصيه الأرقام ولكن ما لا يدرك كلّه لا يترك جلّه، وحسبنا أن نشير هنا إلى بعض خصائصه وأخلاقه، لكي تكون مناراً ينير لنا درب القرب إلى الله تعالى والمعراج إليه، ونحيا حياة علي بن أبي طالب عليه السلام ونموت مماته.
إنَّ خير ما نبدأ به حديثنا عن أمير المؤمنين عليه السلام هو قول الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم في وصفه له، حيث قال: «من أراد أن ينظر إلى آدم في جلالته وإلى شيث في حكمته وإلى إدريس في نباهته ومهابته وإلى نوح في شكره لربه وعبادته وإلى إبراهيم في وفائه وخلته وإلى موسى في بغض كل عدو لله ومنابذته وإلى عيسى في حب كل مؤمن ومعاشرته فلينظر إلى علي بن أبي طالب». (بحار الأنوار للمجلسي: ج17، ص419 ب5 ح49).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «من أراد أن ينظر إلى يوسف في جماله وإلى إبراهيم في سخائه وإلى سليمان في بهجته وإلى داود في حكمته فلينظر إلى علي بن أبي طالب». (بحار الأنوار للمجلسي:ج39، ص35ب73ح2).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام:«... لَوْلَا أَنْ تَقُولَ فِيكَ طَوَائِفُ مِنْ أُمَّتِي مَا قَالَتِ النَّصَارَى فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ لَقُلْتُ فِيكَ قَوْلاً لَا تَمُرُّ بِمَلأٍ مِنَ النَّاسِ إِلَّا أَخَذُوا التُّرَابَ مِنْ تَحْتِ قَدَمَيْكَ يَلْتَمِسُونَ بِذَلِكَ الْبَرَكَةَ...».(الكافي للشيخ الكليني: ج8، ص57).
مما قيل عن الامام علي بن ابي طالب عليه السلام ؟
قال جبران خليل جبران : إن علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) كلام الله الناطق ، وقلب الله الواعي ، نسبته إلى من عداه من الأصحاب شبه المعقول إلى المحسوس ، وذاته من شدة الإقتراب ممسوس في ذات الله . (حاشية الشفاء ص 566 / باب الخليفة والإمام)
قال الفخر الرازي : ومن اتخذ علياً إماماً لدينه فقد استمسك بالعروة الوثقى في دينه ونفسه . (تفسير مفاتيح الغيب 1 : 205 )
وقال أيضاً : أما إن علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) كان يجهر بالتسمية ، فقد ثبت بالتواتر ، ومن اقتدى في دينه بعلي بن أبي طالب ( عليه السلام ) فقد اهتدى ، والدليل عليه قوله ( عليه السلام ) : اللهم أدر الحق مع علي حيث دار . (التفسير الكبير : 1 /205،207
قال خليل بن أحمد الفراهيدي صاحب علم العروض : إحتياج الكل إليه واستغناؤه عن الكل دليل على أنه إمام الكل . (عبقرية الإمام : ص 138 )
قال الدكتور مهدي محبوبة : أحاط علي بالمعرفة دون أن تحيط به ، وأدركها دون أن تدركه . ( عبقرية الإمام : ص 138 )
قال ميخائيل نعيمة : ( وأما فضائله ( عليه السلام ) فإنها قد بلغت من العظم والجلال والإنتشار والإشتهار مبلغاً يسمج معه التعرض لذكرها ، والتصدي لتفصيلها ، فصارت كما قال أبو العيناء لعبيد الله بن يحيى بن خاقان ، وزير المتوكل والمعتمد : (رأيتني فيما أتعاطى من وصف فضلك كالمخبر عن ضوء النهار الباهر والقمر الزاهر ، الذي لا يخفى على الناظر ، فأيقنت أني حيث انتهى بي القول منسوب إلى العجز ، مقصر عن الغاية ، فانصرفت عن الثناء عليك إلى الدعاء لك ، ووكلت الإخبار عنك إلى علم الناس بك.( شرح النهج لابن أبي الحديد : 1 /16)
عن هارون الحضرمي قال : سمعت أحمد بن حنبل يقول : ما جاء لأحد من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من الفضائل ما جاء لعلي بن أبي طالب ( عليه السلام ). ( فرائد السمطين : 1/79 )
قال محمد بن إسحقاق الواقدي : أن علياً كان من معجزات النبي ( صلى الله عليه وآله ) كالعصا لموسى ( عليه السلام ) ، وإحياء الموتى لعيسى ( عليه السلام ). ( الفهرست : ص111)
- عن بعض الفضلاء وقد سئل عن فضائله ( عليه السلام ) فقال : ما أقول في شخص أخفى أعداؤه فضائله حسداً ، وأخفى أولياؤه فضائله خوفاً وحذراً ، وظهر فيما بين هذين ما طبقت الشرق والغرب . ( مقدمة المناقب للخوارزمي : ص8 )
الصفة البارزة التي تميّز بها الإمام عليه السلام أنّه كان من أعظم المسلمين إيماناً بالله تعالى، ومن أكثرهم معرفة به، وهو القائل: «لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا... ». (مناقب آل أبي طالب لابن شهر اشوب: ج1، ص317). وقد ورد في مناجاته لله تعالى قوله عليه السلام: «إلهي ما عبدتك خوفا من عقابك، ولا طمعا في ثوابك، ولكن وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك». (بحار الأنوار للمجلسي: ج٤١، ص14).
كان الإمام عليه السلام من أعظم المنيبين لله تعالى، ومن أكثرهم خوفاً منه، وقد حدّث أبو الدرداء عن شدّة إنابته لله تعالى قال: شاهدت علي بن أبي طالب بسويحات بني النجار وقد اعتزل عن مواليه واختفى ممن يليه وقد استتر ببعيلات النخل فافتقدته وبَعُدَ عليّ مكانه فقلت: لَحِق بمنزله، فإذا بصوت حزين ونغمة شجي وهو يقول: «إلهي كم من موبقة حلمتَ عن مقابلتها بنعمتك، وكم من جريرة تكرمتَ عن كشفها بكرمك، إلهي إن طال في عصيانك عمري وعظم في الصحف ذنبي فما أنا مؤمل غير غفرانك، ولا أنا راج غير رضوانك»، فشغلني الصوت واقتفيت الأثر فإذا هو علي بن أبي طالب بعينه، فاستترت لأسمع كلامه وأخملت الحركة فركع ركعات في جوف الليل الغابر، ثم فرغ إلى الدعاء والتضرع والبكاء والبث والشكوى، فكان مما ناجى به الله عز وجل أن قال: «اللهم إني أفكر في عفوك فتهون عليَّ خطيئتي، ثم أذكر العظيم من أخذك فتعظم عليّ بليتي، ثم قال: آه إن قرأتُ في الصحف سيئة أنا ناسيها وأنت محصيها فتقول: خذوه، فياله من مأخوذ لا تُنجيه عشيرته، ولا تنفعه قبيلته، يرحمه الملأ إذا أذن فيه بالنداء، ثم قال: آه من نار تُنضج الأكباد والكلى، آه من نار نزّاعة للشوى، آه من غمرة في ملهبات لظى»، ثم أمعن (أي زاد) في البكاء فلم أسمع له حساً ولا حركةً، فقلت: غلب عليه النوم لطول السهر أوقظه لصلاة الفجر، قال أبو الدرداء: فأتيته فإذا هو كالخشبة الملقاة، فحرّكته فلم يتحرك وزوّيته فلم ينزوِ، فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون مات والله علي بن أبي طالب، فأتيت منزله مبادراً أنعاه إليهم، فقالت فاطمة: «يا أبا الدرداء ما كان من شأنه وقصته؟» فأخبرتها الخبر، فقالت: «هي والله يا أبا الدرداء الغشية التي تأخذه من خشية الله تعالى»، ثم أتوه بماء فنضحوه على وجهه فأفاق ونظر إليّ وأنا أبكي فقال: «ما بكاؤك يا أبا الدرداء؟»
فقلت: مما أراه تنزله بنفسك.
فقال: «يا أبا الدرداء! فكيف لو رأيتني وقد دُعي بي إلى الحساب، وأيقن أهل الجرائم بالعذاب، واحتوشتني ملائكة غلاظ شداد وزبانية فظاظ، وأوقفت بين يدي الجبار، وقد أسلمني الأحبّاء ورحمني أهل الدنيا لكنتَ أشدّ رحمة لي بين يدي من لا يخفى عليه خافية»، قال أبو الدرداء: فو الله ما رأيت ذلك لأحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. (تنبيه الخواطر لابن ورام: ج2، ص156).
روى المؤرّخون صوراً مذهلة عن عبادة الإمام علي لله تعالى، فقد رووا أنّه حينما كان في أشدّ الأهوال وأعنفها في صفّين كان يقيم الصلاة في وسط المعركة وسهام الأعداء تأخذه يميناً وشمالاً، وهو غير حافل بها لأن مشاعره وعواطفه قد تعلّقت بالله تعالى.
قال الامام محمد الباقر عليه السلام: «دخلت على أبي عليّ بن الحسين فإذا هو قد بلغ من العبادة ما لم يبلغه أحد، قد اصفرّ لونه من السهر، ورمضت عيناه من البكاء، ودبرت جبهته، وانخرم أنفه من السجود، وورمت ساقاه وقدماه من الصلاة، قال أبو جعفر: فلم أملك نفسي حين رأيته بتلك الحالة وهو يبكي فبكيت رحمة له، فالتفت إليّ فقال: أعطني بعض تلك الصحف التي فيها عبادة عليّ بن أبي طالب فأعطيته فقرأ فيها شيئاً يسيراً، ثمّ تركها من يده تضجّراً، وقال: من يقوى على عبادة عليّ بن أبي طالب». (الإرشاد للشيخ المفيد: ص٢٧١، بحار الأنوار للمجلسي: ج37، ص17، وسائل الشيعة للحر العاملي: ج1، ص68).
وظاهرة أخرى من نزعات الإمام عليه السلام وذاتياته العصمة من كلّ إثم ورجس، فلم يقترف - بإجماع المؤرّخين- أي ذنب أو خطيئة، ولم يشذّ عن سنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هديه وسلوكه، قال عليه السلام :«والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جِلب شعيرة ما فعلت».(نهج البلاغة خطب الامام علي عليه السلام: ج2، ص218)، وقال عليه السلام : «والله لأن أبيت على حسك السّعدان (الحسك: الشوك، السعدان: نبت له شوك ترعاه الإبل) مسهّداً، أو أُجرّ في الأغلال مصفّداً، أحبّ إليّ من أن ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد، وغاصباً لشيء من الحطام». (شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج3، ص80).
لقد آثر أمير المؤمنين عليه السلام الآخرين بالطيبات واللذائذ فتنكر لذاته وقدّم غيره على نفسه، وقد وصف الإمام الباقر عليه السلام هذه الخصلة عند أمير المؤمنين عليه السلام حيث يقول: «كان علي بن أبي طالب عليه السلام ليطعم الناس خبز البر واللحم، وينصرف إلى منزله ويأكل خبز الشعير، والزيت والخل». (بحار الأنوار للمجلسي: ج40، ص337).
وينقل لنا التاريخ نماذج كثيرة في هذا الشأن منها:
قال عليه السلام: «وإنّما هي نفسي أروضها بالتّقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر، وتثبت على جوانب المزلق، ولو شئت لاهتديت الطّريق، إلى مصفّى هذا العسل، ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القزّ، ولكن هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة، ولعلّ بالحجاز أو اليمامة مَن لا طمع له في القرص، ولا عهد له بالشّبع، أو أبيت مبطاناً وحولي بطون غرثى وأكباد حرّى، أو أكون كما قال القائل:
وحسبك داء أن تبيت ببطنة *** وحولك أكباد تحنّ إلى القدّ
أأقنع من نفسي بأن يقال: هذا أمير المؤمنين، ولا أشاركهم في مكاره الدّهر، أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش». (نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج3، ص73).
لقد كان عليه السلام حريصاً على أموال المسلمين دقيقاً في صرفها ولم يستأثر منها بشيء لنفسه ويذكر المؤرخون حوادث رائعة في هذا المجال منها:
روى هارون بن عنترة عن أبيه قال: دخلت على عليّ بن ابي طالب عليه السلام بالخورنق، وهو يرعد تحت سمل قطيفة، فقلت: يا أمير المؤمنين، إنّ الله قد جعل لك ولأهل بيتك في هذا المال ما يتنعم، وأنت تصنع بنفسك ما تصنع؟ فقال: «والله ما أرزؤكم من مالكم شيئاً، وإنّها لقطيفتي التي خرجت بها من منزلي: أو قال: من المدينة». (حلية الأبرار للبحراني: ج2، ص246).
ذكر الرواة أنّ الإمام في أيام خلافته لم يكن عنده قيمة ثلاثة دراهم ليشتري بها إزاراً أو ما يحتاج إليه، ثمّ يدخل بيت المال فيقسّم كلّ ما فيه على الناس، ثمّ يصلّي فيه، ويقول: «الحمد لله الّذي أخرجني منه كما دخلته». (بحار الأنوار للمجلسي: ج40، ص321).
من ذاتيات إمام المتّقين، ومن أبرز عناصره الزهد التامّ في الدنيا، والرفض الكامل لجميع مباهجها وزينتها فكان أزهد الناس، وقد تحدّث الإمام عليه السلام عن زهده وإعراضه عن الدنيا بقوله: «فو الله ما كنزت من دنياكم تِبراً، ولا ادّخرت من غنائمها وَفراً، ولا أعددت لبالي ثوبي طِمراً، ولا حُزت من أرضها شِبراً، ولا أخذت منه إلاّ كقوت أتان دبرة».
وذكر المؤرّخون والرواة صوراً رائعة ومذهلة من زهد الإمام عليه السلام كان منها ما يأتي:
لم يعتن الإمام عليه السلام بلباسه، وإنّما كان يلبس أخشن الثياب، وليس عنده من الثياب غير الثوب الذي عليه... كل ذلك إعراضاً منه عن زهرة الحياة الدنيا وزهده بها ومواساة منه للفقراء ... وهذه بعض البوادر التي حكيت عنه:
منها: انه خرج إلى الناس وعليه إزار مرقوع فعوتب في لبسه فقال عليه السلام: «يخشع القلب بلبسه ويقتدي به المؤمن إذا رآه». (مطالب السؤول في مناقب آل الرسول لمحمد بن طلحة الشافعي: ص184).
روى عليّ بن الأقمر قال: رأيت عليّاً وهو يبيع سيفاً له في السوق ويقول: «من يشتري منّي هذا السّيف، فوالّذي فلق الحبّة لطالما كشفت به الكرب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولو كان عندي ثمن إزار ما بعته». (ذخائر العقبى لأحمد الطبري: ص 18).
هذه بعض البوادر من زهده في لباسه وكم نحن اليوم بحاجة إلى الاقتداء بسيرته ونبذ مظاهر الإسراف المتفشية في مجتمعاتنا.
كان الإمام عليه السلام من أحلم الناس، ومن أكثرهم كظماً لغيظه، فلم يثأر من أي أحد اعتدى عليه أو أساء إليه، وإنّما كان يقابلهم بالصفح والإحسان كشأن أخيه وابن عمّه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، الذي قابل المعتدين عليه بالصفح، على هذا المنهج سار وصيّه وباب مدينة علمه، فقابل أعداءه وخصومه بالإحسان والصفح الجميل.
وهذه لمحات من بوادر حلمه تنمّ عن نفسه العظيمة التي خلقها الله لتكون مشكاة نور لعباده تهديهم للتي هي أقوم، وهي كما يلي:
دعا الإمام عليه السلام غلاماً له فلم يجبه، ثمّ دعاه مرّة ثانية وثالثة فلم يجبه، فقام إليه وقال له:
«ما حملك على ترك إجابتي؟». فردّ عليه الغلام: كسلت عن إجابتك، وأمنت عقوبتك.. فامتلأ قلب الإمام سروراً، وقال عليه السلام: «الحمد لله الّذي جعلني ممّن يأمنه خلقه، إمض فأنت حرّ لوجه الله تعالى». (بحار الأنوار للمجلسي: ج41، ص48، الأمالي للسيد المرتضى: ج2، ص162).
من أخلاق الإمام عليه السلام التواضع، ولكن لا للأغنياء والمتكبّرين، وإنّما للفقراء والمستضعفين، فكان يخفض لهم جناح البرّ والمودّة، وقد ضارع بذلك أخاه وابن عمّه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فقد كان للمؤمنين أباً وللفقراء أخاً.. ونعرض فيما يلي لبعض ما أثر عنه عليه السلام.
وفد عليه رجل مع ابنه فرحّب بهما وأجلسهما في صدر المجلس، ثمّ أمر لهما بطعام، وبعد الفراغ منه بادر الإمام فأخذ الإبريق ليغسل يد الأب ففزع الرجل، وقال: كيف يراني الله وأنت تصبّ الماء على يدي؟ فأجابه الإمام عليه السلام برفق ولطف: «إنّ الله يراني أخاك الّذي لا يتميّز منك، ولا يتفضّل عنك، ويزيدني بذلك منزلة في الجنّة».
أيّ روح ملائكية هذه الروح؟ وأيّ سموّ في الذات هذا السموّ؟
وانصاع الرجل إلى كلام الإمام عليه السلام ، فصبّ الماء على يده، ولمّا فرغ ناول الإبريق إلى ولده محمّد بن الحنفية، وقال له: «يا بنيّ، لو كان هذا الابن حضرني دون أبيه لصببت الماء على يده، ولكنّ الله يأبى أن يسوّي بين إبن وأبيه». وقام محمّد فغسل يد الولد. (المناقب لابن شهر آشوب: ج1، ص٣٧٣).
عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: «خرج أمير المؤمنين عليه السلام على أصحابه وهو راكب، فمشوا خلفه فالتفت إليهم فقال: ألكم حاجة؟ فقالوا: لا يا أمير المؤمنين، ولكنّا نحبّ أن نمشي معك، فقال لهم: انصرفوا فإنّ مشي الماشي مع الراكب مفسدة للرّاكب ومذلّة للماشي. قال: وركب مرّة أخرى فمشوا خلفه، فقال: انصرفوا فإنّ خفق النعال خلف أعقاب الرجال مفسدة». (بحار الأنوار للمجلسي: ج41، ص55).
وعن الامام الصادق عليه السلام: «كان أمير المؤمنين عليه السلام يحطب ويستسقي ويكنس، وكانت فاطمة عليها السلام تطحن وتعجن وتخبز.
وروي أنّه اشترى تمراً بالكوفة، فحمله في طرف ردائه، فتبادر الناس إلى حمله وقالوا: يا أمير المؤمنين نحن نحمله، فقال عليه السلام: « ربّ العيال أحقّ بحمله». (المناقب لابن شهر آشوب: ج1، ص٣72).
حقّا إنّ هذه الأخلاق أخلاق الأنبياء العظام وأوصيائهم، وقد مثّلها بسيرته وسلوكه سيّد الأوصياء وإمام المتّقين والأخيار.
من معالي أخلاق الإمام علي عليه السلام عيادته للمرضى، وكان يحفّز أصحابه على ذلك، ويحثّهم على هذه الظاهرة، فقد كان يقول لهم: «إن للمسلم على أخيه المسلم من المعروف ستا: يسلم عليه إذا لقيه، ويعوده إذا مرض، ويشهده إذا مات.... الخبر». (الأمالي للشيخ الطوسي: ج2، ص248).
وكان عليه السلام إذا علم أنّ أحداً من أصحابه مريض بادر لعيادته، فقد عاد شخصاً من أصحابه، ولمّا استقرّ به المجلس قال له: «جعل الله ما كان من شكواك حطّاً لسيّئاتك، فإنّ المرض لا أجر فيه، ولكنّه يحطّ السّيّئات، ويحتّها حتّ الأوراق. وإنّما الأجر في القول باللّسان، والعمل بالأيدي والأقدام». (شرح نهج البلاغة لابن ميثم البحراني: ج5، ص264).
كان الإمام عليه السلام يسأم المدح والإطراء، وكان يقول لمن أطراه: «أنا دون ما تقول، وفوق ما في نفسك»، وإذا أطرى عليه رجل قال: «اللهمّ إنّك أعلم بي منه وأنا أعلم منه بنفسي، فاغفر لي ما لا يعلم». (الأمالي للسيد المرتضى: ج1، ص198).
ومن معالي أخلاق الإمام عليه السلام أنّه إذا دعي لتناول الطعام أجاب إلى ذلك خصوصاً إذا دعاه فقير، وينقل لنا التأريخ أن رجلاً دعا عليّ بن أبي طالب عليه السلام إلى الطعام، فقال عليه السلام: «نأتيك على ألَّا تتكلَّف ما ليس عندك، ولا تدّخر عنا ما عندك». وكان عليه السلام يقول: «شرّ الإخوان من تكلَّف له». (عيون الأخبار للشيخ الصدوق: ج3، ص255).
كان الإمام عليه السلام من أندى الناس كفّاً، ومن أكثرهم برّاً وإحساناً إلى المحتاجين، وكان لا يرى للمال قيمة سوى أن يردّ به جوع جائع أو يكسو به عريان، وكان يؤثر الفقراء على نفسه ولو كانت به خصاصة وهذه شذرات من برّ الإمام عليه السلام وجوده على الفقراء، لم يبغ بما قدّمه لهم من إحسان إلاّ وجه الله تعالى والدار الآخرة:
من بوادر جوده أنّه لمّا قسّم بيت مال البصرة على جيشه لحق كلّ واحد منهم خمسمائة درهم، وأخذ هو مثل ذلك، فجاءه شخص لم يحضر الواقعة فقال له: كنت شاهداً معك بقلبي، وإن غاب عنك جسمي، فأعطني من الفيء شيئاً, فدفع إليه ما أخذه لنفسه، ورجع ولم يصب من الفيء شيئاً. (شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج1، ص205).
كان الإمام عليه السلام يملك أربعة دراهم تصدّق بواحد ليلاً، وبالثاني نهاراً، وبثالث سرّاً وبالرابع علانية، فنزلت فيه الآية الكريمة: (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾. (كشف الغمّة للأربلي: ص50).
هذه بعض البوادر من سخائه وجوده على الضعفاء والفقراء، يقول الشعبي: كان عليّ أسخى الناس، كان على الخُلُق الذي يحبّه الله وهو السخاء والجود، ما قال «لا» لسائل قطّ.
(شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج1، ص22).
وقد أجمع المؤرّخون والمترجمون له أنّه لم يكن يبغي فيما أنفقه أي غرض من أغراض الدنيا كالجاه والسمعة وذيوع الاسم، فإنّ ذلك لم يفكّر به، وإنّما كان يبغي وجه الله تعالى، وما يقرّبه إليه زلفى.
يا رب هذا العسق الدجى *** و القمر المبتلج المضى
بين لنا امرك الخفى *** ماذا ترى فى اسم ذا الصبى
يا اهل بيت المصطفى النبى *** خصصتم بالولد الزكي
إن اسمه من شامخ العلى *** على اشتق من العلى
وكان هذا غيض من فيض مما وصف و قيل في الامام علي بن ابيطالب(ع) .