جامع كاتب الولاية.. نموذج للتعايش والتسامح الديني في غزة
تنا
يعتبر مسجد "كاتب ولاية" من المساجد الأثرية المهمة في مدينة غزة، ويقع في حي الزيتون في البلدة القديمة، وهو ملاصق لواحدة من أهم الكنائس في غزة، ليؤكد ذلك على عمق العلاقة بين المسلمين والمسيحيين.
شارک :
مصطفى عبد الرحمن
يعتبر مسجد "كاتب ولاية" من المساجد الأثرية المهمة في مدينة غزة، ويقع في حي الزيتون في البلدة القديمة، وهو ملاصق لواحدة من أهم الكنائس في غزة، ليؤكد ذلك على عمق العلاقة بين المسلمين والمسيحيين.
وتقدر مساحة المسجد بنحو 377 متراً مربعاً، ويرجع تاريخ بنائه إلى حكم (الناصر محمد بن قلاوون) في ولايته الثالثة سنة (709- 741هـ/ 1341- 1309م)، ويدلل على ذلك اللوحة التأسيسية الموجودة أسفل المئذنة والتي كتب عليها "ابتغاءً لوجه الله تعالى في مستهل شهر ذي الحجة (725هـ 1325م) زمن السلطان (محمد بن قلاوون)".
وأنشئ المسجد بحسب المؤرخ الدكتور عبد اللطيف أبو هاشم مدير المخطوطات والآثار بوزارة الأوقاف والشؤون الدينية الفلسطينية وصاحب عدة مؤلفات حول معالم غزة التاريخية ومساجدها؛ (كاتب الولاية) العثماني (أحمد بك) سنة 995هـ، وهو جامع قديم ملاصق لكنيسة النصارى ويقال أنه (عمري) ثم دمر، فأمر بإنشائه وتجديده (أحمد بك) كاتب الولاية في أوائل ذي القعدة سنة 995هـ وذلك في أيام دولة (السلطان مراد بن السلطان سليم الثاني)، وكانت غزة في ذلك الوقت ولاية.
وأوضح أبو هاشم لـ "عربي21" أن المسجد عبارة عن بيت كبير بعامودين في وسطه وفيها إيوان وساحة أمامه، وهو الآن من أحسن الجوامع وأظرفها ويعمر بالعبادة ويزدحم فيه الناس في سائر الأوقات وتقام فيه صلاة الجمعة وله أوقاف كثيرة.
وأوضح أنه أنشئت للمسجد منارة منقوش عليها من الجهة الشرقية فوق سطح الجامع بعد البسملة: "أمر بعمارة هذه المأذنة مولانا المقر الأشرف السيفي أفنان العلائي نائب السلطنة الشريفة بغزة المحروسة إبتغاءً لوجه الله تعالى في مستهل ذي الحجة الحرام 725هـ وذلك في أيام السلطان (الناصر محمد بن قلاوون)".
وأشار أبو هاشم إلى أن المسجد دمر فأمر بإنشائه وتجديده (أحمد بيك) كاتب الولاية في أوائل ذي القعدة سنة 995هـ. كما هو منقوش على بابه وذلك في أيام السلطان (سليم الثاني) واشتهر به وصار يعرف بجامع "كاتب الولاية".
وأوضح أن غزة بعد الإمارة والنيابة صارت في عهد الدولة العثمانية ولاية كبيرة تمتد من رفح إلى عكا، ومن البحر إلى العقبة ولأهميتها كان مركز الوالي بها وقد يعبر عنه في الصكوك الشرعية بجامع كاتب الولايات جمع ولاية كأن أحمد بيك المذكور تنقل بوظيفة الكتابة من ولاية إلى أخرى.
وقال: "تجدد في إيوان المسجد بصحنه وصارت له أوقاف تقوم بشعائره، ثم ضبط مع الأوقاف العمومية وزيد ارتفاع منارته بعد الحرب العامة ـ ( العالمية الأولى) وتجددت قصارته وفيه محراب كبير ومنبر وهو من المساجد المعمورة".
وأضاف: "لاقتراب مئذنة هذا الجامع من جرس الكنيسة دلالة واضحة على التسامح الموجود للدين الإسلامي الحنيف".
وتابع: "تبين لنا المصادر التاريخية لمدينة غزة مدى سماحة أهل وسكان هذه المدينة من حيث العلاقات مع أصحاب الديانات الأخرى, ووجود الكنيسة إلى جانب المسجد، ثم نجد من خلال الحجج كم كانت هذه المدينة تعج بالناس في أيام المناسبات الدينية, وكثرة توجه السكان إلى المساجد لتأدية الصلوات, والقيام بجميع الواجبات الدينية المناطة بهم، وهناك الكثير من الأمثلة.على ذلك".
وحول مسمى حي الزيتون الذي يحتضن هذا المسجد بهذا الإسم فأكد أبو هاشم أنه سمي بذلك (محلة الزيتون) لكثرة أشجار الزيتون بالأراضي التابعة له من الجهة القبلية والغربية، وكان يسمى قديماً بمحلة "دار الخضر لكثرة وجودها بها".
وقال: "اشتهر هذا الحي بكثرة الزيتون من عهد الروم، ولما أتى إليه السلطان سليم خان حث الأهالي على الإكثار من غرسه لكثرة منافعه، حتى قيل أنه أرسل لهم الغرس من بلاد الروملي، فكان للبلاد به ثروة طائلة بقيت آثارها إلى أوائل الحرب العظمى (العالمية الأولى 1917م)، وهو متصل بالمحلة الأولى، وكانت داخل سور المدينة، وبها مساجد وآثار قديمة وكنيسة برفريوس، ومقبرة الروم الأرثودكس، ودير الروم، ودير اللاتين، ومستشفى وكنيسة للإنجليز، وكان بها دير إلى الأرمن.
ومن جهته قال الدكتور سامي عكيلة من أبناء البلدة القديمة، ورئيس قسم الإعلام في الكلية الجامعية للعلوم التطبيقية بغزة: "إن البلدة القديمة وسط مدينة غزة تتمتع بخصوصية الطابع الثقافي، حيث تمثلت فيها حالة الاندماج بين الثقافات المتعددة منذ الأزل، فهي ملتقى التجارة بين قارتي آسيا وأفريقيا، والقبلة السنوية لرحلة الشتاء التي كانت ترسلها قريش من الجزيرة العربية".
سامي عكيلة برفقة طالباته في مسجد كاتب ولاية
وأضاف عكيلة لـ "عربي21": "ساهم الوضع الخاص للبلدية القديمة في إضفاء طابع ثقافي متنوع، وصقل شخصية السكان الأصليين لمدينة غزة القديمة لتتقبل المختلفين عنها في الدين والفكر والثقافة والعادات والتقاليد".
وتابع: "إن تلك البقة التي لا يزيد مساحتها عن كيلو متر مربع اجتمع فيها سكان يدينون باليهودية وسكنوا في (حارة اليهود)، وكذلك المسحيين على مختلف طوائفهم: الروم الأرثوذكس، ودير اللاتين، والأرمن، وأخيرًا الأغلبية المسلمة التي تقبلت الطائفة الصوفية التي كانت تأتي من الهند وأقامت مسجد الزاوية الشهير والذي أخذ منه السوق المحيط به اسمه حتى يومنا هذا".
وأوضح أن البلدة القديمة سادها الود والقسط والجيرة والشراكة بين الجميع وتمكن الجميع المختلف من بناء معبده والقيام بطقوسه بحرية وتسامح منقطع النظير في العالم، وليس أدل على ذلك من اللوحة الرائعة لمئذنة مسجد كاتب ولاية وهي تحتضن أجراس كنيسة الروم الأرثوذكس، وكذلك اختلاط رفات الأموات من الديانتين في مقبرة القديس سيفرينيوس ومقبرة البحر الخاصة بالمسلمين المتلاصقتين على حدود البلدة من جهة الشرق.
وأشار إلى أن الكثير من حانات الذهب في سوق القيسارية المرتمية على عتبات المسجد "لعمري "الكبير" تشارك فيها مسيحيون ومسلمون.
وقال عكيلة: "هناك العديد من (الأخوة الشرعية) التي نشأت بين المسلمين والمسيحيين، حيث أن الأمهات كنَّ يرضعن أبناء بعضهن البعض".
وأضاف: "بقيت البلدة القديمة بغزة عصية على الغزاة بفضل التسامح والتكامل والوحدة الفكرية والدينية والوطنية التي تمتعت بها، فكانت أسوارها منذ 3000 عام قبل الميلاد أعلى من كل الغزاة".
وتابع: "في الزمن المعاصر ساهم كل من المسجد والكنيسة معًا في احتضان شباب الانتفاضة الأولى عام 1987م، وتشارك الأذان مع أجراس الكنيسة في التعبير عن أفراح وأتراح الشعب الفلسطيني الوطنية، ومؤخرًا استقبل المسجد والكنيسة جموع النازحين من حي الشجاعية شرق مدينة غزة عام إثر عدوان 2014 على غزة".
وشدد الأكاديمي الفلسطيني على أن البلدة القديمة في غزة تقاتلُ اليوم من أجل الحفاظ على بقائها في وجه عواصف النسيان، قائلا: "للأسف فإن بعض خصومها من أبنائها الذين تربوا فيها ورتعوا في حاراتِها، وتفيئوا ظلالَ التاريخ بالقرب من مساجدها وكنائسها وبيوتها العتيقة هم من يحاربونها".
وأضاف: "المطلوب ابتداءً من بلدية غزة لإنقاذ البلدة القديمة، والتعامل معها كقطعةٍ جغرافيةٍ بل أثريةٍ موحدة غير قابلة للتجزئة أو التقسيم (حي الزيتون وحي الدرج وحي الشجاعية)، وتسمية الحي باسمه حي (البلدة القديمة) وفصله إدارياً وتنظيمياً عن محيطه، وكذلك الحفاظُ على آثار البلدة وترميمها من أجل الإبقاء على طابعها التاريخي القديم، وتجريم الهدم والعبث فيها، وذلك جزء لا يتجزأ من معركة الوجود والمصير مع الاحتلال الإسرائيلي".
في السياق ذاته قالت الباحثة في التاريخ والآثار نريمان خلة لـ "عربي21": "إن مسجد كاتب ولاية يتكون الجامع من مصلى رئيس به عمودان رخاميان يعلوهما تيجان بزخارف كورنثية، يحملان ستة عقود متقاطعة تكون رواقين، والمنبر يحتوي على بقايا أحجار مزخرفة بنيت فوق باب الروضة التي أزيلت معظم نقوشها".
وأضافت: "أما المئذنة فهي قائمة على قاعدة مربعة الشكل يعلوها بدن مثمن يتخلله شبابيك مستطيلة، وفي الوسط يوجد فتحات دائرية صغيرة في بعض أضلاعه أما أعلى البدن فهناك فتحات مستطيلة يليها مشرفة معروشة للمؤذن مستندة على دعائم حجرية، تسمى بـ (الجوسق)".
وأوضحت أن ما يميز الجامع تجاوره مع كنيسة الروم الأرثوذكس ـ كنيسة القديس بيرفيريوس، وتلاقي المئذنة مع الصليب في مكان واحد، مما يدل على التسامح الديني الذي تمتع به المسيحيون في فلسطين على مر العصور ومازال حتى يومنا هذا.
وأكدت على أكدت على كنيسة الروم الأرثوذوكس ومسجد كاتب ولاية تعدان إحدى أهم الأماكن الأثرية التي توجد بمدينة غزة، نظرا للفترة الزمنية التي يرجع إليها تأسيسهما، كما ويقع في نفس المنطقة على مسافة لا تزيد عن 800 مترا سوق الزاوية الأثري ومسجد العمري الكبير في شارع عمر المختار .
وقالت خلة: "إن مشهد مسجد كاتب ولاية وكنيسة الروم الارثوذوكس ما هو إلا شاهدا حيا على قوة العلاقة التاريخية التي تربط المجتمع المسلم والمسيحي في غزة، ففلسطين هي مهد الديانات، ومقصد الأتقياء وأرض الشهداء ".
وأضافت: "يوجد بين الكنيسة والمسجد جدار مشترك اثري بطول 20 مترا وارتفاع 3 أمتار".