إن سيلاً من الرسائل الساخنة قد وصل إلى من يعنيه الأمر في تل أبيب وواشنطن وعواصم أخرى، من أن أي عملية عسكرية إسرائيلية ضد سوريا تعني تدحرج المنطقة نحو حرب شاملة
شارک :
في ظلّ النيران المشتعلة في المنطقة، وخاصة في سوريا، بدأت إسرائيل ومَن خلفها يلمّحون إلى إمكان القيام بعمل عسكري، تحت ذريعة منع انتقال مخزون السلاح الكيميائي السوري إلى أيدي المقاومة. خطوة كهذه كفيلة بإشعال المنطقة، لأن قرار طهران والمقاومة، الذي وصل إلى من «يعنيهم الأمر»، يقضي بعدم الوقوف موقف المتفرّج.
بعيداً عن التعليقات ذات الطابع النظري لما يجري في سوريا، وتالياً في المنطقة، يبدو أننا أمام أسابيع يسودها الحذر الشديد إزاء احتمال حصول انفجار كبير.
وعند الإشارة الى انفجار، يعني أن الحديث يدور عن مواجهة ما قد تندلع مع إسرائيل. وهو تطور من شأنه إعادة خلط الأوراق في كل دول المنطقة، ويهدد بتوسيع دائرة التوتر الدموي نحو مناطق أخرى من دول الإقليم. لكن يبقى أن مفتاح أزمة كهذه موجود بيد الأطراف الخارجية المتورطة في الأزمة السورية.
في الوقائع، لا يحتاج أحد الى تفسير لقرار «الغرب» العودة الى مهمة كوفي أنان، برغم الإعلان عن فشلها، سوى عدم توفر البديل. والمقصود هنا بالبديل، عدم قدرة المعارضة السورية المسلحة، ومعها عواصم عربية وإقليمية ودولية، على إنتاج وقائع ميدانية تتيح الحديث عن تبدل جوهري في ميزان القوى على الأرض.
وقائع الميدان والمعارضة روبرت مود، رئيس فريق المراقبين الدوليين في سوريا، زار لبنان قبل عدة أيام لساعات قليلة. أمضى سهرة هادئة مع أصدقاء في بيروت، كانوا يستفسرون منه عن حقيقة الأوضاع وتقديراته للموقف.
تحدث مود عما سماه «مبالغات النظام في سوريا لحجم الإسلاميين المتورطين في أعمال العنف»، لكنه أشار إلى «أن الحراك الشعبي السلمي انحسر الى حدود العدم، وأن المعارضة المسلحة تنتشر، لكن بفوضى كبيرة، وبقدرات يصعب أن تؤدي الى تغييرات جدية على الأرض».
وقال مود إن «النظام لا يزال متماسكاً، وإنه يسيطر على مناطق واسعة من سوريا، وإن المسلحين يسيطرون على بعض الأرياف، وإن مواجهة كالتي تقوم الآن تعني أن الرئيس بشار الأسد يقدر مع جيشه على الصمود سنوات طويلة، ما لم يحدث تطور مفاجئ».
قبل مود، كان موفدون أتراك يجولون في بعض العواصم الداعمة لسوريا. منهم من زار بيروت أيضاً، داعياً «الى بحث ولو نظري حول الوضع من أجل ابتداع آلية للحل تقوم على فرضية رحيل الأسد». وجد هؤلاء من يصدّهم. وعندما بدا لتركيا كما لجهات أوروبية وجود إستعداد روسي لمناقشة الفكرة ولو «نظرياً»، سارعت دمشق نفسها، وقبلها وبعدها إيران الى إبلاغ القيادة الروسية «رفض أصل الفكرة» مع تحذير إيراني «من هكذا فخ لا يجب الوقوع فيه». وهو ما تحوّل لاحقاً الى «رسالة رسمية للغرب بأن أي بحث في حل يقوم على فكرة رحيل الأسد، لن يكون على الطاولة من يقدر على مناقشته».
في هذه الأثناء، برزت الى الواجهة الصعوبات غير العادية في وضع المعارضة السورية، السياسية منها والعسكرية. وإلى جانب الصورة الهزلية لاجتماعات قوى المعارضة في القاهرة، فإن الأوساط الاستخبارية الغربية بدأت تتحدث عن «تشرذم خطير في صفوف هذه المعارضة». وقد مورست ضغوط على عواصم عربية من أجل «جمع هؤلاء بالقوة»، لكن النتيجة لم تأت بشيء.
وبدل أن ينجح هؤلاء في «القيام بخطوات تعزز وضع المجموعات الناشطة على الأرض، انعكس الأمر سلباً على المجموعات العسكرية، إذ بادر بعضها الى إعلان استقلاليته العملانية، ما أدى الى تعاظم نفوذ المجموعات الإسلامية المتشددة، بينما صارت البقية تحصر تواصلها مع الخارج بمراكز التنسيق من أجل الحصول على أموال وعتاد غير مكتمل. فيما تنشط مجموعات أخرى على خط وساطات تهدف الى تنظيم «عملية التخلي عن السلاح بصورة متزامنة مع حلول سياسية».
إهتمامات الغرب وإسرائيل وسط هذه الانشغالات، يبرز الى السطح مجدداً الجانب الآخر من الاهتمام الغربي والإسرائيلي بما يحصل في سوريا. وتكشف تقارير، يستند معظمهما الى معلومات استخبارية، عن نشاط مطّرد (بينه نشاط ميداني منسوب الى قوات خاصة تركية وبريطانية، وربما أميركية) وهدفه الوصول الى خريطة «تمركز الأسلحة غير التقليدية للجيش السوري». والمقصود هنا ليس «ترسانة الصواريخ البعيدة المدى، بل أيضاً ما يقول الغرب إنه أكبر مخزون من الأسلحة الكيميائية في المنطقة».
وخلال أسبوعين، نشرت وسائل إعلام إسرائيلية وغربية تقارير عدة تركز على العنوان نفسه، فأشارت مجلة «فورين بوليسي» الى أن «أن وزارة الخارجية الأميركية أرسلت مذكرة دبلوماسية إلى العراق والأردن ولبنان والسعودية، تحذّرهم من احتمال عبور أسلحة الدمار الشامل السورية حدودها».
بينما أفادت شبكة «سكاي نيوز» التلفزيونية، يوم أمس، بأن مصادر إستخبارية حذّرت من إمكانية تدخل إسرائيل عسكرياً لمنع وقوع مخزون سوريا السري من الأسلحة الكيميائية في أيدي الإرهابيين، الى أن وصل الأمر إلى حد إعلان مصادر إسرائيلية «أن الولايات المتحدة أبلغت تل أبيب بأن الاستخبارات التركية أوضحت لها أنها لم تعد تملك معلومات مؤكدة عن مكان وجود هذه الأسلحة»، ما دفع الى استنفار غير مسبوق في إسرائيل عبّر عنه قائد المنطقة الشمالية في جيش الاحتلال، يائير غولان، الذي تحدث عن عبور أسلحة استراتيجية من سوريا إلى حزب الله، «تشمل كل الأنواع، باستثناء السلاح الكيميائي».
لكن صحيفة «إسرائيل اليوم» التي قابلت غولان كتبت ما فهم أنه استنتاج لنقاش غير رسمي مع الرجل حول «وجود إمكانية لاشتعال كبير ومهدّد، وأن نقل سلاح استراتيجي من سوريا إلى حزب الله قد يشعل حرباً كبيرة».
وعما إذا كان نقل سلاح كيميائي للحزب سيمثّل ذريعة «لكسر الأواني»، أجاب غولان: «أعتقد أن هذا حادث خطير لا نظير له، وسيكون لزاماً علينا أن نفعل شيئاً حياله. لن نجلس ونشاهد ذلك يحصل». وما لبثت أن أبلغت مصادر عسكرية وأمنية صحيفة «جيروزاليم بوست» أن «تلقي الغرب لمعلومات استخبارية عن نقل أسلحة كيميائية إلى لبنان، قد يدفعه نحو عمل عسكري استباقي».
ولم يكتف الإسرائيليون بهذه المعلومات، بل بادروا ومن دون سابق إنذار الى إطلاق موجة تهديد متواصلة للبنان وحزب الله. كان البارز فيها ما أورده موقع «نيوز وان» الإخباري العبري من أنه يجب العمل على إنتاج أسلوب ردع جديد، يتمثل في إفهام حزب الله بأن ما يواجهه هو دولة مجنونة». والمقصود هنا ما قاله كثيرون في إسرائيل من أن أي مواجهة مع حزب الله سوف تعني «تدمير كل شيء في لبنان».
بديل عملي وبين وقائع سوريا الميدانية، وهواجس الخارج المعادي للحكم فيها، يمكن سرد الحقائق التي تقود الى الاستنتاج المقلق. بات واضحاً أن ميزان القوى الدولي يمنع على مجلس الأمن إصدار أي قرار بتدخل عسكري مباشر في سوريا بهدف إسقاط النظام.
أما الاتكال على أعمال متطورة من جانب الحدود فهو أشبه بالصراخ في واد سحيق.
الأردن عرضة لانفجار داخلي محتوم إن قررت قيادته الرسمية التورط. وتركيا تحاذر المواجهة، الى حدود أنها مستعدة لإعلان مسؤولية الطيارين التركيين عن سقوط الطائرة قبالة الساحل السوري. بينما أبلغت الولايات المتحدة الأميركية الحلفاء في لبنان «ضرورة التنبه من القيام بعمل زائد عن اللزوم يؤدي الى انهيار الوضع، وبالتالي فقدان الغرب والمعارضة السورية أرضاً صديقة» وهو ما ترافق مع وقائع معلنة وأخرى غير معلنة أدت الى «انحسار تدريجي في بقع تمركز وتحرك المعارضة السورية المسلحة في لبنان».
في جانب آخر، لا يزال النشاط «السياسي والأمني والمالي القائم من قبل عواصم غربية وعربية في قلب المؤسسة الحاكمة في سوريا دون المستوى المطلوب لضمان انقلاب عسكري حقيقي». وهي حقيقة يرددها المعنيون أنفسهم، علماً بأنه يترقب حصول انشقاقات إضافية على طريقة مناف طلاس والسفير السوري في العراق. لكن إمكانية أحداث فارق نوعي باتت أقل بكثير مما كان متوقعاً قبل ستة أشهر.
إزاء ذلك، يبدو أن الولايات المتحدة والغرب قد عادوا الى البحث في دور «أزعر المنطقة» الذي تترك له الأعمال القذرة في اللحظة الحرجة. ومثلما كانت عليه الحال في لبنان بين عامي ٢٠٠٥ و٢٠٠٦، وصلت الأمور الى حدود إعلان القوى المحلية في سوريا ومعها الغرب العجز عن تحقيق تبدل كبير من دون عمل ميداني كبير.
وفي هذا السياق، فهم أن إسرائيل دخلت مرحلة «الاستعداد» لاحتمال قيامها بـ«عمل عسكري خاطف ضد سوريا، حجته المبررة دولياً هي التخلص من أسلحة دمار شامل، على غرار التجربة العراقية، وأهدافه تتعلق بتوجيه ضربات مدمرة للجيش السوري وللدولة السورية بهدف وضعها في موقع ضعيف للغاية، ما يمكّن الغرب والعرب المعارضين للأسد من توجيه ضربات قاضية تسمح للمعارضين السوريين المسلحين بالانقضاض على الدولة هناك».
الرسائل الساخنة وفي هذا السياق، بدا واضحاً الهدف الأبرز من وراء التهديدات الإسرائيلية المستجدة للبنان. ظن البعض أن تل أبيب تستعد لمغامرة عسكرية ضد إيران في ضوء فشل المحادثات الغربية حول برنامجها النووي. لكن المؤشرات تبدو ضعيفة جداً إزاء قيام العدو بحماقة بهذا الحجم. فيما تقول المعطيات المعروفة أو غير المعروفة إن إقدام إسرائيل على شن حرب على لبنان هو أشبه بدعوة الجميع الى حفل شواء في الجحيم.
فلا يبقى من الرسالة سوى محاولة «لتحييد قسري» لحزب الله عن أي تدخل ضد إسرائيل في حال قررت هي القيام بعمل عسكري ضد سوريا. وكان في الغرب، كما في إسرائيل، من يعتقد بأنه يمكن «استفراد بشار الأسد في هذه اللحظات».
واقع الحال ليس كما يتخيله الإسرائيليون، فنتيجة أي هجوم عسكري إسرائيلي على سوريا، يعني بعبارة واحدة: دعوة حزب الله الى الحرب. وبالتالي سوف يكون من السذاجة توقع «وقوف إيران وحزب الله على الحياد أو التفرج على سقوط حليفهم الرئيسي في المنطقة يسقط، وعلى يد من... إسرائيل؟».
وعليه، فإن سيلاً من الرسائل الساخنة قد وصل الى من يعنيه الأمر في تل أبيب وفي واشنطن وحتى في عواصم أخرى، من أن عملية عسكرية إسرائيلية ولو كانت خاطفة ضد سوريا، تعني تدحرج المنطقة نحو حرب شاملة.
وفي هذه الحالة، فإن المحظورات التي تمنع اشتعال مناطق أخرى من العالم العربي إو الإقليم سوف تسقط دفعة واحدة. وسوف نكون أمام واقع صعب ودقيق وشديد الألم. وساعتها، لن ينفع أحداً القراءات الاستراتيجية ولا التحليل والتمنيات ولا الدعاء. سوف نشهد أشد الفصول سخونة في الصراع العربي ـــ الإسرائيلي. ويفوز من يصبر.
لنستمع جيداً إلى خطاب الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله بعد غد الأربعاء!