تاريخ النشر2012 23 July ساعة 14:18
رقم : 103081

إنه ليس الحمزة لكنها معركة «أحد».. نحن معا نتحدّى إذن نحن موجودون

تنا - بيروت
«إنّ المعركة الحالية في الشرق ستقرّر مصير العالم في القرون القادمة."
إنه ليس الحمزة لكنها معركة «أحد».. نحن معا نتحدّى إذن نحن موجودون
لن نضع المساحيق والأقنعة.. وسنواجه شجاعة الاعتراف بأنّ ما حدث هو أقسى ضربة تتلقاها قيادة الجيش السوري منذ معركة ميسلون من الناحية الرمزية والمعنوية.. العماد داود راجحة هو أول وزير دفاع سوري يسقط شهيداً بعد يوسف العظمة عام ١٩٢٠.. والصف القيادي الذي فقدته القيادة السورية هو أرفع مسؤولين قياديّين مخضرمين.. إيلام على إيلام، وجرح طويل يتمدّد على طول قلوب السوريين الوطنيين، لكنه من تلك الجراح التي لا تنزف دماً بل ناراً.. ولن أبالغ إن قلت إن تلك الجراح المفتوحة اليوم كبوابات الشام هي التي فتحت لنا الأفق نحو تجاوز ما نحن فيه.
 
لن نقفز فوق الأسوار بعد اليوم، ولن نفتح الثغرات في الجدران، كما كنا نحاول أن نفعل طوال الأزمة.. بل سنمرّ من بوابات الجرح الكبير الذي فتحه لنا استشهاد القادة الكبار الذين اختلط دمهم بدم جميع السوريين الأحرار. اليوم بالذات بدأت الأزمة السورية في التآكل.. ودم القادة هو الذي أرقأ جراح الوعي السوري.. وكان كالموج الذي نقل الشعب السوري إلى منصة أخرى.. ونقل الرئيس الأسد وحلفاءه إلى المعركة الفاصلة ومعركة العين بالعين والسنّ بالسنّ.. 

عندما تختلط دماء القائد والجندي والمواطن فهذا يعني أنّ الوطن معافى، وهو وطن الجميع، دم الجميع للجميع، ومن أجل الجميع.. ولكن عندما ينزف الجنود والمواطنون في حرب شعواء ولا ينزف القادة، فالوطن في خطر.. فلا يوجد مركّب كيميائي في الدنيا يُمسك مداميك الوطن كالإسمنت المجبول بخلطة دم القادة وجنودهم، فدم هادي نصر الله ورفاقه وعماد مغنية جمع الناس على كلمة نصر الله.. ودم القادة السوريّين
غسل كلّ الأوهام والادعاءات عن أبراجهم العاجية وعن انفراد السوريين العاديين بالشهادة والتضحية من دونهم..
لكن كما علينا التحلي بشجاعة الاعتراف فإنّه علينا أيضاً أن نقرأ ما حدث بتفهّم وهدوء وتحت قاعدة إنكليزية تقول: في الأزمات إياك والجزع.. إن جزعت.. خسرت. 

فالعملية لا شكّ أنها معنوية ورمزية للغاية، بالرغم من قسوتها، لكنها كما يتفق الجميع لا تحمل أصابع ولا دماغ المعارضة السورية الهزيل، بل أصابع وتقنيات أجهزة استخبارات دولية كبرى تعمل متناسقة وتتبادل المعلومات والتسهيلات وكلّ المناورات والتقنيات.. هي التي تدير هذه المعركة كلها.. فمعرفة تحركات قادة كهؤلاء واختراق أمنهم ليس من عمل ذوي اللحى ومعارضي الحارات أو الفنادق.. بل يدلّ على أنّ عملاً تجسسياً كبيراً كان يتمّ بشكل متقن على مدى أشهر طويلة، وقد تورّطت فيه سفارات غربية ومكاتب عربية وأقمار صناعية.. لكن اللجوء إلى خيار الاغتيالات كما قرأه معلقون غربيّون يعكس نتيجتين حاسمتين لا مفرّ منهما وُضِعا أخيراً أمام أصحاب القرار من القوى الغربية وهما: 

١- إن كسر جسم الجيش السوري مستحيل ولا يمكن إحداث أي انشقاق كُتلي مهمّ فيه، وبذلك سقط أهمّ وأقوى سلاح فعّال في تحطيم الدولة السورية عبر تجريدها من وحدة فوهات البنادق وتوجّه سبطانات الدبابات نحو العدو الحقيقي..
٢- كذلك فإنّ قرار الحرب الدولية على سورية قد انتهى نهائياً ولم يعد مطروحاً من دون توطئة استخباراتية طويلة.. لكن البديل كان في شنّ عمليات استخبارية ضدّ رؤوس الدولة السورية، أيّ بالضبط نسخة طبق الأصل عن قرار «إسرائيل» عندما اكتشفت أنّ استئصال جسم حزب الله من شمالها هو المُحال بعينه، فلجأت الى تكتيك حرب الاستخبارات واغتالت قائده العسكري عماد مغنية.. أي قتلت «إسرائيل» فرداً واكتفت عاجزة عن النيل من جسد المقاومة العملاق، وبقيَ حذاء عماد مغنية على فم شمال «إسرائيل».. وبقيَ حزب الله ومن دون قائده عماد مغنية يحشو فمها ومؤخرتها بالصواريخ وهي حائرة تتأوّه.. 

لكن القراءة التي أبدت تشاؤمها من هذه العملية كانت قراءة غربية صرفة، التي وجدت أنّ هذه العملية الاستخباراتية
ستكون - على أهميتها - هي التي ستقتل التمرّد في سورية، لأنّ محور الرئيس الأسد قد تحرّر من طريقة الحوار والمفاوضات الماراتونية.. ولأنه تحرّر من حسابات الربح والخسارة الديبلوماسية وانتقل الآن إلى مرحلة المواجهة وتصفية الحساب التي لا يستطيع أحد في الدنيا ثنيه عنها.. لأنّ عملية الاغتيال للقادة السوريين تعني أنّ التفاهمات غير المكتوبة على إبقاء النزاع مع الخصوم واللاعبين الدوليين على مستوى منخفض قد انتهت اليوم.. وصار النزاع الآن بلا تفاهمات وبلا حدود.. والصراعات عندما تنتقل من التفاهمات الى اللاتفاهمات تعني أنها وجدت طريقها الى الحلّ والاستقرار وفق احتمالين اثنين لا ثالث لهما أيّ: هزيمة الخصم النهائية أو هزيمتي النهائية.. والخصم ليس المعارضة السورية التي لا حول لها ولا قوة.. بل الخصم هو من يمسك بها وبذيلها.. 

وهنا تذكرت عبارة قالها الرئيس الأسد عند احتلال العراق ولم أتمكن من فك شيفرتها لأنها كانت معقدة للغاية، واعتقدت أنها مبالغات خطابية.. لكنها برزت الى شوارع ذاكرتي وتجوّلت في كلّ الزوايا بعد حادثة مبنى الأمن القومي، وكأنه أراد بها اليوم معركة سورية.. فقد قال بالحرف: «إنّ المعركة الحالية في الشرق ستقرّر مصير العالم في القرون القادمة». 

وحسب ما رشح من معلومات منذ عدة أسابيع فإنّ القوى الغربية وجدت أنّ عملية التورّط في حرب على سورية قد تكون نتيجتها مماثلة لحرب «إسرائيل» على حزب الله، أيّ تنتهي بنصر غير متوقع للرئيس الأسد بسبب إصرار روسيا على مساندته، وبسبب تحالفاته القوية وامتلاكه لسلاح الصواريخ الذي فوجئ الغرب بقدراته.. أما الدخول في محاولة إسقاط النظام عسكرياً فستنتهي في الحال إلى كارثة عسكرية وحرب استنزاف على نحو كارثة العراق، خصوصاً أنّ سورية لن تكون سهلة كالعراق الذي سقط لأنه وقع من دون وجود حليف له بل كان محاطاً بالخصوم والعملاء.. ولذلك وضع خيار الحرب بالاستخبارات واستئصال القيادات العسكرية الذي كان أحد الخيارات البديلة بقوة.. لكنه خيار أقلّ فاعلية وغير مضمون في نتائجه لأنّ اغتيال الأفراد والقادة كما
وصف لا يعني سوى فقدان رصاصات، فيما ماكينة السلاح – وهو هنا الجيش السوري – لا يزال قادراً على تلقيم الرصاص وإطلاق النار، والحلّ هو في محاولة اغتيال الرئيس الأسد نفسه.. الرجل الذي يمسك بالسلاح والرصاص.. اختصاراً لكلّ الاحتمالات.. أو التخلص من رجاله الموثوقين.. 

وكان كلّ ما قيل عن معركة دمشق الكبرى هو الهراء بعينه، لأنّ معركة بابا عمرو كانت هي المعركة الوحيدة التي رُصد لها كلّ شيء لتنجح ولم تنجح.. بل كانت فشلاً على فشل على فشل.. وكانت هي الاختبار الحقيقي لما يمكن أن تفعله التجمعات المسلحة.. ولا توجد منطقة في دمشق يمكن أن يتهيّأ لها ما تهيأ لبابا عمرو من أنفاق وإمداد بالسلاح النوعي عبر شمال لبنان والاتصالات والتغطية الإعلامية، ومن تجمع لخيرة المقاتلين بالآلاف والذين تمّ انتزاع بابا عمرو من بين أسنانهم خلال أيام في عملية عسكرية عديد أفرادها ٧٠٠ مقاتل سوري فقط.. كشف فيها أنّ الجيش السوري قد طوّر تكتيكات حرب العصابات والكوماندوس على نطاق واسع منذ نجاح تجربة عام ٢٠٠٦ في لبنان.. وألا أمل لأيّ حرب شوارع بالنجاح.. لا في دمشق ولا في غيرها..
لن أقلل من حجم الأبطال.. ولا يجوز الاستهتار بالضربة.. ولكن من العار أن نربط مصير وطن برجل واحد أو رجلين أو ثلة من الرجال القادة. ومن العار أن نقبَل أن استشهاد الأبطال والقادة يُعتبر كارثة على أمة.. لأنّ من يؤمن بذلك هو من لا يثق بنفسه ولا يثق بشعبه، وهو من يؤمن بأنّ الفرد أهمّ من الأمة وبأنّ الأمة امرأة عاقر.. ومن يؤمن بأنّ الفرد أهمّ من الأمة هو عبد.. وليس حراً.. ونحن أحرار أبناء أحرار.. ومن يؤمن بأنّ استشهاد القادة هو الكارثة فإنه يُهين بقية الشهداء.. فكلّ جندي صغير وشاب استشهد هو بمثابة العماد داود راجحة أو العماد آصف شوكت.. ودمه لا يقل عن دمهما ثراءً واحمراراً.. 

إننا في ثورتنا على ثورات الربيع العربي نريدُ أن نخلق جيلاً لا يرى في القائد إلا جندياً .. ولا يرى في الجندي إلا قائداً.. فيما يريد منظمو ثورات الربيع العربي الغربيّون أن تتكرّس لدينا فكرة أنّ الأمة وخيارات التحدّي فيها تنتهي بنهاية رجل واحد مهما كان دوره متواضعاً.. أي انتهى
خيار العراق المقتدِر بنهاية صدام حسين.. وانتهت ليبيا من الجغرافيا السياسية بنهاية القذافي.. وانتهت فلسطين بنهاية عرفات.. وستنتهي سورية بنهاية قادتها الكبار.. إنها ثقافة القبيلة التي تريد القوى الغربية تكريسها لدينا في أنّ موت شيخ القبيلة يُميت القبيلة كلها.. ويجعلها تنبطح.. 

إننا في ثورتنا على ثورجيّي الربيع العربي نريد أن نثبت أنّ النظام لن ينهار بسقوط هؤلاء الأفراد، لأنّ الثورجيّين يريدون تكريس فكرة أنّ هذه الأنظمة «الديكتاتورية» تستمدّ وطنيّتها وسياستها الوطنية وبقاءها من أفراد.. فيما الحقيقة أنّ هؤلاء الأفراد القادة يستمدّون وجودهم في السلطة من تماهيهم مع نزعة التحدّي لدى جمهور وطني واسع.. واغتيالهم لن يغيّر في معادلة التحدّي سوى أنّ عامل التحدّي سيزداد.. وسيزداد كثيراً.. فنحن من تعلم في مقاعد الدراسة أن:
فليس يهلك منا سيّد إلا .. افتلينا غلاماً سيداً فينا..
إنّا لمن معشر أفنى أوائلهم قيل الكماة: ألا أين المحامونا؟؟ 

ولا بدّ لي من إبداء إعجابي بشجاعة القيادة السورية، وفي إدراكها السريع أنّ الضربة قاسية لكنها لا تقصم ظهر الأمة.. إذ أعلنت في الحال عن الشهداء والضحايا، ولم تحاول التكتم والانثناء على الجرح والتمويه والتسويف.. بل قالت بثقة بالنفس كلّ الحقيقة، وهذا ما أراحني وقدّم لي الدليل على أنّ القيادة السورية تعرف أن الجيش السوري منجم للقيادات.. وأنّ من رحلوا كانوا من النخبة لكن المنجم ثري بالنخب.. والوطن مليء بالمناجم.. والنجوم.. والأقمار.. أي أنّ وجود الوطن لا يقوم على رموز محدّدة.. بل الوطن هو من تقوم عليه الرموز التي إن سقطت نهضت غيرها.. 

سأكون في منتهى الصدق والشفافية مع كلّ مَن يقرأ لي وأقول إنّ سماعي بخبر استشهاد القادة قد صدمني للحظات، لكنه لم يفاجئني كثيراً، خصوصاً أننا نتابع منذ بداية الأزمة السورية النية باستهداف قيادات سورية مهمة، ومن يُراجع تلك التفاصيل سيجد أنها
مذكورة بدقة في تقارير استخبارية وصحفية في هذا الاتجاه، خصوصاً أنّ المعركة على سورية هي معركة قاتل أو مقتول مع قوى الغرب.. ولكن نهضَ في قلبي شعور بالتحدي بعد دقائق من سماعي الخبر.. وانتهت مراسم الحزن في قلبي، وتحوّل الخفقان حزناً إلى خفقان للتمرّد.. وأحسست أنّ قوة في الدنيا كلها لا تستطيع أن تنزع من قلبي هذا التحدي.. فأنا كمواطن سوري لن أسقط ما دام قلبي لم يسقط.. وما دام يضخ التحدّي والتمرّد.. 

أنا سأنظر إلى ما حدث على أنه معركة «أحد».. انتصر فيها الباطل.. ولم تنتهِ الدعوة المحمّدية.. دعوة التحدّي والتمرّد من أجل الحق.. وفي معركة «أحد» استشهد الحمزة عمّ الرسول بيد عبد اسمه «وحشي».. واستشهد كثير من الصحابة ومنهم مصعب بن عمير وهو الذي رفع الراية بيد واحدة بعدما قطعت يده.. ولما قطعت الثانية ضمّ الراية بين ذراعيه.. ثم استشهد.. ولكن بقيت الراية. 

ليس المثال هنا لتشبيه أحد بأحد على الإطلاق.. لكنه للإشارة الى أننا من ثقافة تعرف أنّ استشهاد القادة الكبار وأبناء العمّ أو الأعمام في المعارك والصراعات هو شيء طبيعي ونستطيع قبوله وتحمله.. وأن «وحشي» المأجور الذي يسدّد رمحه إلينا ويقتلنا ونحن نحارب هو جزء من تجربتنا وتراثنا.. وأنّ القبول باستشهاد الكبار هو أيضاً جزء من ثقافتنا وتراثنا.. ولكن ما لا نستطيع تحمّله وقبوله هو استشهاد الوطن والأمة.. وموت التحدي..
ولا أجد أجمل من عبارة رينيه ديكارت أختم بها والتي تقول: أنا أفكر.. إذن انا موجود..
 
لأنني سأملأ قلمي من دم القادة اليوم وأكتب ما يلي:
نحن معاً نتحدّى.. إذن نحن موجودون..
 


المصدر: صحيفة البناء - الكاتب نارام سرجون
https://taghribnews.com/vdcc41qss2bqxx8.caa2.html
الإسم الثلاثي
البريد الإلكتروني
أدخل الرمز