وقعت غزة، المدينة والقطاع، ضحية صورتهما الإخبارية، أينما حل الغزيون، ومهما صنعوا، لا يستثيرون من الإعلام الا رواية مآسيهم.. لكن، هناك عالم آخر في غزة متعطش للضوء
شارک :
تغريد عطاالله بعد السلامات والتحيات الفايسبوكية، حادثتني صديقة لبنانية تعنى بالشأن الفلسطيني في بيروت. قالت "بدنا منك حالات إعاقة من غزة"، ودون أن ترى ملامح وجهي التي تجهمت لهذا الربط الدائم بين غزة والمصائب، أسألها التوضيح أكثر فتقول "بدنا حالات بتصدم" (هكذا كما عرفتها)! "يعني؟" من باب تقريب الفكرة، قالت التالي حرفياً "مثلاً أن يكون موسيقياً بيدين مشلولتين، ويمكنه العزف بأصابع قدميه الخ.."!
وخلال أسرع وقت ممكن. تريد هذه الحالات صديقتي اللبنانية، هي من طلب إليها زميلها مقدم برنامج "أحمر بالخط العريض" وبسبب إختصاصها بالشأن الفلسطيني، مساعدته في البحث عن حالات كهذه، ليتمكن من خلالها تسليط الضوء على معاقي غزة ضمن حلقة يخصصها "للمعوقين المميزين"!
فليفرح الغزيّون.. البرنامج المثير سيستعرض أشد مآسي معوقي مدينتهم، بل أكثرها شداً للأبصار، فمالك مكتبي بأسلوبه المشوّق وأسئلته الجريئة، سيرفع النقاب عن حياة شبّان وفتيات وأطفال، تسببت لهم جرائم الاحتلال الاسرائيلي المتواصلة بالإعاقة، الحروب ذاتها، تلك المتواصلة، وكأنّها جرعات موت تخصصها اسرائيل لأهالي غزة، بين حين وآخر، مراعية أن يلتقط أبناؤها أنفاسهم كي يستعدوا للجرعة القادمة.
لا شك في أن الشهداء والمصابين والجرحى، من فقدوا بصرهم وسمعهم وأحلامهم وطموحاتهم، يستحق كل منهم الاحترام والتقدير وتقديم يد العون قبل أن يطلبها، كما يستحق تعاطف الاعلام العربي والدولي، لكن أن تحصر الصورة بهذا الشكل، ان تصبح المأساة اداة تشويق؟ وماذا عن المعوقين غير «المبدعين؟».
إذن.. بالنيابة عن أبناء مدينتي دعني أشكر مالك مكتبي، لاهتمامه الحار بلفت إنتباه مشاهديه لمثل هذه الحالات التي تهتم بعرضها غالبية القنوات الفضائية، وعلى رأسها الفلسطينية، و هذا ليس خطأً جسيماً يرتكبه مكتبي أو أي من تلك الجهات الاعلامية، بحكم كونها ضرورة من الضروريات الملحة المتعلقة بأهم واجبات الاعلام العربي، اي فضح جرائم الاحتلال للمشاهد العربي والأجنبي.
إلا أنّ خطأً فادحاً ربما غاب عنه وعن غيره، خطأ يزيد قهر الغزّي وأكثر، أمر يتعلق باستغلال الاعلام الوضع المأساوي لأهالي غزة من أجل التشويق وشحذ الأبصار، وكل ذلك على حساب كرامة أولئك الناس الذين «يُستعرضون» تلفزيونياً! لكن ماذا عن باقي خلق الله ذوي المعاناة الأقل «مشهدية»؟.
الصحافيون الغزيون ذاتهم شاركوا في صنع هذه الصورة المشوّهة، بل امتهنوا اقتناص القصص المحزنة، يبحثون هنا وهناك عن قصة ترجف لها الأبدان. وها أنت يا مالك اليوم تطلب حالات إعاقة مأساوية فريدة الطراز، هذه الحالات تريدها في أسرع وقت؟
حسناً.. من غزة، سنرسل لك العديد منها، اليوم، ربما غداً على أقصى تقدير، ولكن قبل ذلك، ينبغي أن يدرك الاعلام أنّ هناك الكثير من الغزيين المبدعين والموسيقيين والنوابغ والكتاب والممثلين والمخرجين، كل تلك الوجوه المشرقة بحاجة لتسليط الضوء عليها أيضاً. لسنا اليوم بمعرض تعدادهم بقدر لوم الإعلام على نسيان كرامة «الانسان» الغزّي في أن يظهر بشكله الطبيعي، السلبي منه والايجابي، التراجيدي منه والكوميدي، المحب للحياة والساخط عليها، دون إقرانه على الدوام بالصورة الدونية للشخصية المهملة والملقاة على قارعة الحياة، حتى انطبعت الصورة ذاتها في نفسه، وأصبح يتعامل معها على أنّها حقيقته، فأنقصت من ثقته بنفسه ما أنقصت! فإن كانت السياسات الاعلامية لا تأبه لهذه التفاصيل، إذن بئس الشعور وبئس الاعلام!