لإعادة النظر بحقيقة مفاهيمنا الإسلامية: الجهاد، الإستشهاد، المقاومة
"المقاومون كانوا قلة في فرنسا وشرعية المقاومة لا تؤخذ من التأييد الشعبي بل من نبل عملها"
المقاوم السابق والدبلوماسي ستيفان هيسل
شارک :
ديغول، غاندي، عبد الناصر وغيرهم، ماذا يقول التاريخ عنهم؟ أليس الأول نُصّب بطلاً في فرنسا حتى اليوم والثاني لا يجهل أحد مقولته الشهيرة: تعلّمت من الحسينِ كيف أكون مظلوماً فأنتصر، فيما أكّد الأخير على أنّ ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلاّ بالقوة؟؟
ليس عبثاً أن إنطلقتُ من المقاوم الفرنسي ديغول ، لأنه في لبنان باتت القاعدة: قل لي من قدوتُك أقل لك من أنت. فالمقاومة بالطّريقة الفرنسية هي شغفٌ للكثيرين على قاعدة "كل شي فرنجي برنجي"، فيما يخجل الشخص نفسه بالمبدأ نفسه "مقاومة العدو" لأنه جاء من شخص يختلف معه في نظرته لهذا الوطن.
ما نشهده في السّياق اللّبناني، ليس نزع لمفاهيم تربّت في سياقات مغايرة بقدر ما هو إنحراف وتحريف لأمور ومفاهيم كثيرة بات اللّبناني يصدّرها للعالم. وبهدف إعادة النّظر بمفاهيم بات التفنّن بتحريفها سمة من سمات العصر، كانت مقاربتنا لهذا الموضوع.
الحرب، الجهاد، الشهادة، الإستشهاد، المقاومة.. مفاهيم لم يعد ثمّة إتفاق عليها، فهل الإستشهاد سلوك ينتمي إلى عالم "السّياسة و الحرب"، أم إلى عالم "الإيمان والإيديولوجيا"؟ ماذا عن "سياستنا عين ديانتنا و ديانتنا عين سياستنا" هل القاعدة باتت القتال والإستثناء المهادنة، أم ماذا؟ تساؤلات كثيرة تبحث عن إيجابات.. وحتى لا نتوسّع سنبادر إلى الحديث عن ثلاث محاور رئيسية:
- الحرب في الإسلام : مفهومها، آدابها وأخلاقياتها. - الجهاد إستراتيجيّة إسلاميّة: مفهومه، نوعان للجهاد، المقاومة الوجه الحالي للجهاد. - بين الإستشهاد و الإنتحار: عمليات إستشهادية، إنتحارية، أم فدائيّة؟ في هذا العدد سنتطرق للمحورين الأولين على أن نترك المحور الأخير للعدد القادم إن شاء الله.
أولاً : السلام على الجميع و السلاح على المعتدي فقط إنّها تحيّة الإسلام، "السلام عليكم"، تعمد إلى بث الطمأنينة في نفوس من نلقاه، يقابلها أكره الحلال "السلاح عليكم" وهو ما أمر الإسلام بإستخدامه للضرورة فقط ودفاعاً عن النفس.
الحرب ليست إختراعاً أوهدفاً إسلامياً ، فهي موجودةٌ قبل الإسلام. فما إن حطّ آدم رحاله على الأرض ثارت نزعة الضغينة في ولده فقتل أخاه. وإن كان الإسلام خاض حروباً ضد أعدائه إلا أنه لم يبادر إليها، بل أرادها رادعة عادلة لا مدمّرة حين فُرضت عليه.
وإذا كانت حروب الأنبياء كثيرة، ولا ننسى حرب نوح (الطوفان)، إلا أنّ الإسلام جاء وأحدث تحولاً جذرياً في ماهية الحرب، كيفيتها، أخلاقيتها، عقيدة المحارب وهذا ما سنأتي على ذكره.
نستشهد هنا بالقرآن الكريم الذي لم يأت على ذكر "الحرب" سوى مرات ست، خمساً على سبيل الإخبار ومرة واحدة فقط للثّورة على المشركين المعتدين، في حين وردت مشتقّات السّلام مئة وستين مرة مفسرة التعامل المثالي مع الإنسانية جمعاء.
ثانياً: آداب الحرب في الإسلام تعني كلمة "آداب" في اصطلاح فقهاء الإسلام وغيرهم ما نعبر عنه نحن اليوم بـ "أخلاقيات". والمقصود بها بيان الوجه الأفضل في كل سلوك والحثّ عليه. فللأكل آداب، وللسفر آداب، (زيادة على فرائضها وسننها ومستحباتها..).
من آداب الحرب وأخلاقياتها التي أولاها الفقهاء عنايةً خاصة، ما يتعلق بتصرّفات المسلمين أثناء الحرب مع الكفّار، مثل من يقتل ومن لا يقتل، وما يجوز إتلافه وما لا يجوز الخ.. كل ذلك نظّمته أحاديث كثيرة وأفعال صدرت من النّبي (ص) والصّحابة وبنى عليها الفقهاء حُكم الشرع فيها. من ذلك ما روي عن النبـي (ص) من أنه نهى عن قتل النساء والصبـيان فـي دار الـحرب.
واعتمد الفقهاء هذا في فهم هذه الآية : "وَقَاتِلُوا فِـي سَبِـيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين" (البقرة -١٩٠)، فقالوا إنّ من لا يقاتل من أهل دار الحرب لا يجوز قتله مثل النّساء والصبـيان.
ويمكن إختصار أهم اداب الاسلام في الحرب، بخطوط عريضة يمنع على المقاتل تخطيها: - لا يهدم البيوت - لا يقتل الاطفال ولا الشيوخ ولا النساء ولا الرجال العاجزين عن القتال - لا يقطع الاشجار - لا يهدم الكنائس - لا يقتل الحيوانات - يحترم الدّيانات الاخرى
ثالثاُ: الجهاد إستراتيجيّة إسلاميّة سادت مؤخّراً ظاهرة لا زالت ترافقنا حتى يومنا هذا وإن صحّ التعبير تسميتها بـ"إغتصاب المفاهيم"، فبتنا كثيراً ما نسمع كلمة "الجهاد" في غير مواضعها وغيرها من المفاهيم النّابعة من مصدر إسلامي إلاّ أن إستخدامه الحالي لا يمتّ للإسلام بصلة، فإقتضى منّا توضيح البعض منها.
الجهاد هو الإستراتيجيّة الإسلاميّة للحرب، وهو محصور بنوعين لا ثالث لهما: - جهاد المشركين دفاعاً عن الدّين و الحق، ويكون ببذل الأنفس والأموال، ويتوّج بالشّهادة أو النّصر. - جهاد النّفس لترويضها على العبادة والأمر بالمعروف. إذاً حصر الإسلام الجهاد وحدّده في سبيل الله وحده خالصاً له، أجاهد المرء المشركين أم جاهد نفسه ليردّها إلى طريق الله سبحانه وتعالى. وبالتالي فإنّ من يحاول نزع القدسيّة عن الجهاد، من خلال القتال في سبيل الملوك والزعماء فهو تعدّي أولاً على مفهوم الجهاد ومن ثم الشهادة، وهو إعتداءٌ حقيقي يصادر أرواح البشر وحقوقهم وحرياتهم، وهو قتال يأخذ صفة الغزو والقهر.
كما جاء الإسلام ليغيّر الهدف من الحروب و ليضع منظومة قيميّة للمحارب تختلف عن تلك السّائدة قبل الإسلام وليضع للحرب أدبيات وأخلاقيات. نستنتج هنا أن مفهوم الحرب فى الإسلام هو ردٌّ على المعتدي، وكان من أهم تعاليم الرسول (ص) لجنوده الرحمة حيث حذر من الإعتداء على المدنيّين غير المشاركين في ميدان القتال كذلك لا يجوِّع المسلمين أعداءهم أو يمنعون عنهم الماء.
وفي الحرب ضرب الرسولُ الكريم صلوات الله عليه وآله أروعَ المُثل على الرحمة والعدل والتفضل ومراعاة أعلى آدابها الإنسانية؛ ففي قتاله لا يَغدر ولا يفسد ولا يَقتل امرأة أو شيخًا أو طفلا، ولا يَتبّع مُدبرا، ولا يُجهز على جريح، ولا يُمثِّل بقتيل، ولا يسيء إلى أسير، ولا يلطم وجها، ولا يتعرض لمسالم.
كما وضع الإسلام قاعدة إنسانية في معاملة أسرى العدو وضحها من خلال قوله تعالى: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا (محمد/٤). إذاً وبناء على ما تقدّم، أوضح الإسلام للإنسان من يحارب، لماذا، كيف ومتى وأين يحارب.
المقاومة الوجه الحالي للجهاد.. وليس بعيداً عن الجهاد، ننتقل للحديث عن المقاومة، فهي مذ وجدت أيضاً لم تكن اعتداءً على الآخر، ولكنها فعل إنساني إرادي واعٍ للحفاظ على الوجود والعيش بكرامة وحرية.. إنّها دفاع إنساني مشروع عن الحياة ضدّ من يعمل على قتلها واجتثاث القيم الإنسانية النبيلة وضد كل محتل غاصب، ما جعل الجمعية العامة للأمم المتحدة بقرارها رقم (٣٢١٤) لعام (١٩٧٤م) تشرّع حقّ الشعوب في الكفاح المسلح من أجل نيل الحرية والاستقلال وحق تقرير المصير، وهو ما يعني مقاومة الإحتلال بكلّ الأشكال المتاحة للشّعوب.
ولم تكن المقاومة للأرض بدعة مستحدثة، فهي حالة وجودية لكل مخلوق، بيد أنّها تتخذ لدى الإنسان أشكالاً مختلفة، وهو ما جعل الشعوب على اختلاف أجناسها قديماً وحديثاً تمارس أنماطاً عديدة من المقاومة، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: الحالة الفرنسية- الجزائرية، الحالة الأمريكية- الفيتنامية، الحالة الأندونيسية- التّيمورية، الحالة الجنوب افريقية- نظام الابارتهايد..
- في العدد القادم إن شاء الله سنستكمل الحديث عن هذا المحور و سنتطرق إلى محور: بين الإستشهاد و الإنتحار:عمليات إستشهادية، إنتحارية، أم فدائيّة؟