لعلّ الإنجيل يقصد لبنان في قوله "الحجر الذي رذله البناؤن صار رأساً لزاوية"،صار ضعف لبنان بطاقة عبور لمقاومة لتحرير الدولة من الإحتلال الخارجي
وها هي المقاومة اليوم،بلسان السدي نصر الله تقول للعدو "إياك إياك,,"لبنان أقوى,, وكلام السيّد حاسم
السيد حسن نصر الله، ليس من هذا العالم. هو في كوكب، والعالم العربي الرسمي في كوكب آخر.
غريبٌ هذا الرجل ومن يمثلهم! إنه يتكلم على فلسطين عن جد. يتحدث عن القدس وكأنها عائدة، بعدما هجرها عرب الإيمان القويم بأميركا والنفط والإعلام، ويعد العدّة ليوم الندم الإسرائيلي وأيام الخوف والرعب لسكانها، إن هي تجرأت على لبنان، أصغر وأضعف دولة في المنطقة، بل وفي العالم.
أي جنون جميل هذا الوعي وهذا الوعد وهذه الـ«فلسطين»!
إنه ليس من هذا العالم... عالمنا الذي ننغمس فيه، نأى بنفسه عن فلسطين. قال: «أهل مكة أدرى بشعابها»... استقال بلذة التخلي عن المقدس، مفضلا الاختلاء بالسلطة، متوسلاً البقاء فيها، بكل ما أوتي من تفوق في ممارسة القهر والغلبة، محولا شعوبه إلى حقول رماية بالرصاص الحي، وإلى حقول تجارب للقمع وآثاره، والسلب ومفاعيله، والحطِّ ومستوياته، والحيونة وتقليدها لمذهب بافلوف.
السيد حسن نصر الله، خريطته فلسطين وعاصمتها القدس. الآخرون، عواصمهم خارج الخريطة العربية. واشنطن، أم العواصم العربية.. هي «بيت المال» العربي، و«مخزن» القرارات العربية، و«مستمولة» التسليح العربي، ومجهزة «الجيوش العربية»، و«ناظمة» الإعلام العربي، و«مالكة الأختام» لصكوك الغفران، ومانحة «صكوك البراءة» من الداء القومي.
السيد حسن نصر الله، ومن يمثلهم من المؤمنين بفلسطين فلسطينية، تعريفاً ومضموناً، ماضياً ومستقبلاً، أكانوا شيعة أم سنة أم علمانيين أم ملاحدة، لا يشوب أملهم كفر بالقضية، ولا ينقص جهدهم فعلاً لنصرتها... إهتدوا إلى الصراط المستقيم، وما بدّلوا.
الآخرون، مزمنون جداً.. مذ ولدت قضية فلسطين، ومذ تشلعت الأمة كيانات وأنظمة وديانات وطوائف ومذاهب وعائلات وعشائر وقبائل، ومذ استولى على الحكم أمراء وملوك وعسكر وحرامية، وهم يتعاملون مع فلسطين على قاعدة التوظيف المحلي، والتجارة المربحة. هم كذلك من زمان. ذهبوا إلى فلسطين عام ١٩٤٨، ليأخذوها أو يأخذوا منها، إن لم يكن إلى إمتلاكها كلها سبيلاً... ومن أخذ منها أرضاً إعتقلها وسيّجها، ومن أخذ منها إسماً، وضعه شارة على صدره، وصار مارشالاً أو جنرالاً.
الآخرون، حتى الذين قادوا جيوشهم لقتال إسرائيل، خسروا المعركة بعد الهزيمة، وخسروها أكثر بعد شبه إنتصار في حرب تشرين. إسرائيل، الدولة التي كان يجب أن تخاف، جيوشاً مسلحة، ومئة مليون عربي، كانت مخيفة. وفيما كانت اسرائيل، على مدى سنواتها، تسرّع عملية تسليحها بلا توقف، كان العرب يروّجون للواقعية، ويعوّلون على السلام، ويوجهون بنادقهم إلى صدور شعوبهم، ويضعون جيوشهم بتصرف غرب يخوض حروبه في أفغانستان والعراق مستبدلين إسرائيل بعداء للاتحاد السوفياتي، وعداء مستشرس لإيران.
مغامرٌ هذا الرجل. العالم من حوله ضده، ولا يخاف. إسرائيل تخاف منه. ما دخل معركة معها وخسر. «جردة الحساب» في العام ١٩٩٣، كانت لصالحه. «عناقيد الغضب» في العام ١٩٩٦، تذوقت إسرائيل حصرمها وخضعت لمرارة التعادل، ٢٥ أيار ٢٠٠٠، هربت إسرائيل من الجنوب المحتل، واصفة الحزام الأمني بوادي الدموع.
وفي تموز ٢٠٠٦، فاق الخوف الإسرائيلي كل التوقعات... الدولة الاقليمية العظمى، المدعومة والمحاطة والمرعية بأميركا والغرب والعرب (حكاماً وأمراء ورؤساء)، خرجت من المعركة، وهي تجر الخيبة... لقد أصبح لإسرائيل بعد تموز، ذيل لا خلاص لها منه... لعنة تموز تلاحقها حتى اليوم... وحتى «غداً لناظره قريب».
هل هذا شذوذ عن القاعدة؟ هل المقاومة الإسلامية في لبنان إعجاز من كوْنِ الخارج، أم هو تسطير بقوة الموقف وصلابة الفعل ويقين الانتصار وصدق القضية؟ هل الآخرون شذوذ عن القاعدة، ففضلوا البناء على الخسارة؟ هل النظام الرسمي العربي، بشقه الرجعي سابقاً، وبشقه الاعتدالي راهناً، غريب عن المنطقة، أم هو من تأليف أجنبي؟ الاثنان منا. ولكن المقاومة منا ومعنا، وأنظمة الاعتدال، منا وعلينا.
عرفت فلسطين أناساً عاهدوا وصدقوا... ولم ينجحوا. ثبتوا في المواجهة والنضال، إلى أن أسقطتهم الأنظمة العربية، قبل أن تسقطهم إسرائيل.
المقاومة الفلسطينية، عمرها قرن من الزمان. منذ إندلاع موجات الهجرة الصهيونية. ولم تتوقف إلا بعد خسارة. في معظم الحقب، كان الفلسطيني يقاتل وحيداً. ومساعدة العرب الرسميين له، محسوبة جداً عليه. حساب البقاء في السلطة، أجدى وأكثر إقناعاً من حساب المواجهة مع اسرائيل، باستثناء عبد الناصر، الذي استقال. (ولو عاد بعد ذلك) بعد هزيمة العام ١٩٦٧.. غيره تشبّث بالسلطة بعد كل هزيمة، وغيره أيضاً، استقوى بالاستسلام، طلباً للسلامة.
معظم حكام العرب، كانوا مع فلسطين من فوق المنابر، وبلهجات خطابية تثير زوابع من غبار الكلام، وفي الوقت نفسه، كانوا ضد الفلسطينيين... إسرائيل طردتهم والأنظمة اعتقلتهم، فكانوا نزلاء المخيمات (السجون الكبيرة) ونزلاء أقبية الاعتقال. قلما نجا قائد فلسطيني من الاعتقال. قلما نجا ناشط فلسطيني من تعذيب. قلما نجا مواطن عربي من ملاحقة، إذا كان مؤيداً أو مدافعا أو ملتزماً بفلسطين.
هذه الأنظمة ليست غريبة عنا، وإن لم تكن منا. عمرها من عمر الكيانات التي ولدت بعد مذبحة سايكس ـ بيكو ومجزرة ميسلون. عمر هذه الأنظمة من عمر التبعية للغرب، باني هذه الكيانات ومهندس تخلفها ومبرمج تراجعها ومنظم نهب ثرواتها ومدرّس شعوبها دروساً في حقوق السلطة علينا، لا حقوق الإنسان.
وهذه المقاومة أيضاً، ليست غريبة عنا، ولكنها منا ومعنا. عمرها من عمر أحزاب وهيئات وقيادات وطنية وقومية، تسنى لها أن تقاتل العدو ولم تحظ بالنصر. هذه المقاومة، لها أصول في سلطان باشا الأطرش، قائد الثورة السورية الكبرى المغدورة. ولها أصول في ثورتي هنانو وصالح العلي. لها أصول في ثورة عز الدين القسام المتروكة لحالها. لها أصول في غيفارا غزة وسعيد العاص وفوزي القاوقجي... واللائحة تطول، وصولاً إلى منظمات العمل الفدائي. وما بين الأنظمة الرسمية العربية والمقاومة عداء.
ما كانت المقاومة متصالحة مع الدولة الكيانية والقطرية، ولا مع سلطاتها. المقاومة خروج على منطق الدولة التي تفضل الاستقرار على دفع تبعات الثورة والالتزام... ولذلك، حيث كانت الدولة قوية، بنظامها وسلطتها وأمنها وقبضتها، كانت المقاومة ملجومة أو معتقلة. ودائما تستقوي الدولة على شعبها، فيما تظهر ضعفها في مواجهة اسرائيل، وتسمي ضعفها حكمة.
نجحت المقاومة في لبنان، لأن الدولة ضعيفة. لو كانت هذه قوية، لخسرت المقاومة ولادتها... فضيلة لبنان أنه ضعيف، سمح للطوائف بأن تستقوي عليه وتنهبه، وأتاح للمقاومة أن تضعه في موقع القوة الأقوى في المنطقة.
تلك الطوائفيات دمرته، وهذه المقاومة نصرته. لعل الانجيل يقصد حالة لبنان في قوله: «الحجر الذي رذله البناؤون صار رأساً للزاوية»، صار الأساس. ضعف لبنان بطاقة مرور للطوائف بلا حواجز لاحتلال الدولة، وبطاقة عبور للمقاومة لتحرير الدولة من الاحتلال الخارجي.
ها هي المقاومة اليوم، بلسان السيد حسن نصر الله، تقول للعدو: إياك أن... لبنان أقوى... وكلام السيد حاسم، فهو لا ينتمي لعالم المفكرين السلميين الذين تبرعوا في مرحلة أوسلو وما بعدها، بتقديم «أفكار بناءة»، لإقناع إسرائيل بالتسوية.. عرضوا عليها الأمن. كانوا مستعدين (مراجعة مكية وصاغية وبشير وسواهم ضرورية) لتحويل النظام العربي الرسمي إلى حارس أمين للأمن الإسرائيلي. والأمن الإسرائيلي يشترط أن يكون مضموناً من دول وشعوب المنطقة الممتدة من الخليج إلى المحيط... تريد أمناً مطلقاً.
كلام «السيد» مختلف. كلامهم أضغاث تنازلات لم تقبلها اسرائيل. إسرائيل تريد استسلاماً تاماً وكاملاً.
تريد شطب فلسطين وشعبها، وجعل المنطقة تحت هيمنتها... وقد قبل بعض العرب أن يكون حديقة خلفية لإسرائيل، محروسة بقواعد عسكرية أميركية، وكلاب حراسة اسرائيلية. كلام السيد مختلف، يجدر بنا أن نكرره ونتوقف عنده، لأنه منصة للأمة باتجاه المستقبل.
قال السيد: «نحن في عالم لا يحترم إلا الأقوياء، وأي بلد عربي يريد أن يكون بمنأى عن العدوان يجب أن يكون قوياً». وجواباً على ازدياد تهديد إيران وتهديد لبنان قال: «نحن لا ننكر أن «إسرائيل» تملك قوة تدميرية قوية... أنا لن أقول إنني أستطيع تدمير «إسرائيل»، ولكن أقول إننا نستطيع أن نحوّل حياة ملايين الصهاينة في فلسطين إلى جحيم حقيقي ونستطيع أن نغير وجه إسرائيل... الحرب مكلفة جداً مع لبنان. هناك بعض الأهداف في فلسطين يمكن استهدافها بعدد قليل من الصواريخ، وأقول للإسرائيليين إن لديكم عدداً من الأهداف يمكن أن نطال بعدد قليل من الصواريخ الموجودة لدينا، وضرب هذه الأهداف سيحوّل حياة عشرات آلاف الصهاينة لجحيم... لن نتردد في استعمال هذه الصواريخ ضد هذه الأهداف وعلى الإسرائيليين أن يعرفوا أن كلفة العدوان على لبنان باهظة لا تقاس بكلفة الحرب العام ٢٠٠٦».
كان يوم القدس العالمي، إبان إلقاء كلمته، يوماً عالمياً. ففيما كان الدكتور سمير جعجع يفتش عن الدولة في الركام، ووليد جنبلاط يقطع جسوره المؤقتة مع أطراف لبنانية ويرتق السياسة بحرفة القــفز المتعدد الاتجاهات، والأنظمة العربية الرسمية البائدة تبحث عن كيفية محاربة إيران في لبنان وسوريا والعراق والخليج، كانت إسرائيل منكبّة على دراسة ما قاله السيد، الذي إذا قال، صدّقته اسرائيل وخافت منه وأخذته على محمل الجد.
فريق الكوكب العربي الرسمي يريد طمأنة اسرائيل، ويتخندق في حلف واحد معها ضد إيران وحزب الله، وفريق الكوكب المقاوم، يطيّر النوم من عيون قادة إسرائيل، الذين يعيشون خيارات صعبة ومرة وخطيرة، فرضتها عليهم المقاومة الإسلامية في لبنان. وشتان ما بين الفريقين.
هذه المقاومة، مشروع الأمة ومشروع مستقبلها. ولكنها، وبرغم منعتها وقوتها وترهبنها لمواجهة إسرائيل، وبناء القوة وتدريب الكفاءات، فإنها تعيش أياماً صعبة. لبنان الضعيف، نعمة لها، توظّف إيجابياً.
لبنان المهترئ، نقمة عليها: الاهتراء معدٍ، وينتقل. المقاومة المشاركة في السلطة، برهنت على أنها لا تجيد الرقص مع «العرجان». يتصــيدونها، في كل الأمكنة. يســتدرجونها إلى كل الساحات، يصوّبون عليها من كل الاتجاهات، والهدف أبعد من السياسة... كل الهدف، إصابة سلاح المقاومة. العرب الرسميون، أتباع سنّة السلطان، لا يريدون مقاومة بيئتها وحاضنتها شيعية. فريق الاعتدال العربي، السني بأكثريته، مشكلته ليست مع التشيع، بل مع المقاومة. يريد تشيعاً بلا بنادق.
الربيع العربي في دمشق أصابها، التضخم المذهبي في لبنان أتعبها. العشائر وآل الأسير الصيداوي وآل المقداد وآل.. وآلـ... لا قدرة للمقاومة للتعامل مع هذه الترسانة بمنطق التعالي عليها. فهي بحكم تشيعها، محكومة بأن تكون سياسية من الصنف اللبناني.
شبكة أمان المقاومة في لبنان، ليست شيعيتها... شبكة أمانها وطنية، فلماذا تهاونت في هذا واكتفت بالنصاب الشيعي وحده؟
من أماني المؤمنين بأحقية مبادئ «الربيع العربي» وأهدافه، من أماني المؤمنين بالحرية والعدالة والكرامة وحقوق الإنسان، أن يكون خطاب «السيد» قد بلغهم، كي يضيفوا إلى مواسم الربيع العربي، قضية فلسطين. صحيفة السفير - نصري الصايغ (بتصرُّف)