تاريخ النشر2015 27 October ساعة 15:10
رقم : 209726

عقلنة عاشوراء

تنا
في قاموس المواسم العاشورائيّة، تزدهرُ مفرداتٌ مُربكةٌ بين الآونة والأخرى؛ بعضُها تصطنعها الأجواء الاجتماعيّة أو السياسيّة المخيّمة، وبعضها الآخر لا يعدو كونهُ نتيجةً لهبوطٍ في قيمة الخطاب العزائيّ، وسطحيّة أفكاره، وفقر المعرفة التي يُفترض به أن يقدِّمها للجمهور.
عقلنة عاشوراء

 بقلم علي عباس

تُختزلُ المعتقداتُ الدّينيّة للشّعوب "المؤمنة" بمنظومة الطقوس والعبادات؛ وتُصنّف مراتب النّاس الإيمانيّة وفقها، وتزدهرُ المواسم الطقوسيّة باعتبارها الأداة الأكثر فعاليةً في حشد القواعد الشعبيّة، وإعادة تمتين علاقتها بالدّين وقادته. ذكرى "عاشوراء" (الملحمة الثّوريّة التي حصلت العام 61 للهجرة)، نموذجٌ استثنائيٌّ في فاعليّته واستدامة جذوته؛ غيرَ أنّهُ محكومٌ أيضاً لطقسنة حادّةٍ تمسُّ جوهر المناسبة وأبعادها الرساليَّة.

تتصاعد وتُبتكرُ الأشكال والطّرائق من سنةٍ إلى أخرى؛ ولك أن تتخيَّل التغيّر الّذي يضربُ طقوساً مرَّ عليها أكثر من ألف عام، من دون أن توضع لها ضوابط جدّيّة تضمن بقاءها في مسار الاتزان والفائدة الفرديّة والاجتماعيّة.

بل انعكسَ الأمرُ في المشهد العام إلى شرعنة الفوضى؛ وفتح الأبواب لاجتراح الطّقوس تحت عنوانٍ غايةٍ في الاتّساع: إحياءُ الذّكرى.

لاحقاً؛ تحملُ الطّقوس المبتكرةُ شيئاً فشيئاً صفة القداسة؛ ويُحظرُ على المفكِّرين مناقشتها بعقلٍ أو تخصّصٍ علميّ، ويُرجَمُ النَّاقدون بأنّهم مُبغِضون لشخص الحسين الثّائر، ومارقون من "المذهب" وأهداف الثّورة؛ وصولاً إلى تخوينهم أو وضعهم في دائرة العمالة لأعداء الدّين والملّة.

يمضي جيلان أو ثلاثة؛ وتُصبحُ أغربُ الطّقوس مُسلّماتٍ بديهيّةً في وعي عموم المجتمع، وينصرف الكثيرُ من أفراده لتطبيقها دون أيّ عناءٍ للبحث في الدّليل أو النتائج المتوقّعة.

التّطبير، المشي على الجمر، دهن الرّؤوس والوجوه بالطّين... من هنا يبدأ مشوار الانحراف عن الدّين باسم الدّين.

الطّقوس وعُقدة الذّنب
للطقوس الموسميّة أثرٌ سحريٌّ في الضّمير؛ ففي أغلب المواسم، تجدُ كثيراً من أولئك الّذين لا يُطيقون حياة الالتزام الحقيقيّة وقوانينها المضنية على امتداد العام؛ يُبادرون بحماسةٍ إلى إحياء المواسم الطقوسيّة (عاشوراء نموذجاً)، وينجرفون إلى أقصى درجات القسوة على الذّات في هذه الأيّام القليلة؛ كتعويضٍ ـ غيرِ واعٍ ـ عن كمِّ الخطايا التي يرون أنّهم عاشوها خلال الفترات الممتدَّة بين المناسبات. هذه المتلازمة النفسيّة تُفسِّر جانباً من التطرّف في أنماط الإحياء وأساليبه (كضرب الذّات بالسّيوف، والزّحفِ على الخدود، وحتّى قهر العقل بالخرافات والأساطير)؛ في سبيل تسكين وخز الضّمير الّذي ينتجُ من التّناقض ما بين معتقدهم وسلوكهم على امتداد العام.

يخرجُ المتحمّسون من المواسم بيقينِ الصَّفحة البيضاء، والمغفرة التامّة، واستئناف الحياة "كيوم ولدتك أمّك"،
وتساعدهم على ذلك الكثير من المرويّات المصطنعة الّتي هدفَ واضعوها ـ ببراءةٍ رُبّما ـ إلى حثِّ النّاس على ممارسة الطقوس، بحجّة تقريبهم إلى الدّين لا أكثر.

ولم تعد مستهجنةً تلكَ الأحاديثُ الّتي تدَّعي مغفرةَ ذنوبٍ تعادلُ ذنوبَ الإنسانيَّة جمعاء؛ بدمعة عاطفةٍ واحدة! بل بدمعة "تباكٍ" مصطنعة، وصولاً إلى القسم بأنَّ والدة الحسين المنزّهة تطوف بينهم وتجمع هذه الدّموع لتقايضهم بها جناناً يوم القيامة.

اعتدال العقل والعاطفة
في الواقع، لا تمسُّ مفردةُ العقلنة مطلقاً بقيمة العاطفة (كما يسعى البعض إلى تصويرها)؛ غير أنّها تُرشّدُ فيها كلّ النقاط الإيجابيّة، وتُحصِّن الإنسانَ من الانسياق وراء سلبيَّاتها التي تؤذي واقعه وتخدش صورته الحضاريَّة أمام الآخر.

ومن القيّم أن تتركّز جهود المنادين بالعقلنة على الأساليب الحضاريّة ذات الفائدة المجتمعيّة في إحياء الذّكرى، واستثمار العاطفة في تربية السّلوك اليوميّ للإنسان الملتزم؛ دون أن تربكهم الضجَّة التي يفتعلها المتطرّفون، الّذين يهلعونَ من كلِّ فكرةٍ ناضجةٍ قد تقطع عليهم سبيلاً للانفعال باسم الثّورة وعلى حساب أهدافها.

في عددٍ من الدّول الغربيَّة، نجدُ شباباً يحملون زهوراً حمراء ألصقت بكلٍّ منها بطاقةٌ تعريفيّةٌ بشخص الحسين وأهداف ثورته، ويوزّعونها على المارّة في الطرقات. في البحرين وإيران ولبنان ودول أخرى، تُنصَبُ مراكز متنقّلة للتبرّع بالدّم مجّاناً باسم الحسين، النّماذج الإعلاميّة الشبابيّة عن عاشوراء، المعارض الفنيّة، المجالس الواعية، النّدوات والمحاضرات... إلخ.

ليس ثمّة شُحٌّ في الأساليب الإيجابيَّة للإحياء مطلقاً؛ لكن هناك شحٌّ حقيقيّ في وعي أهميّتها وأثرها في تسييل الذّكرى في واقعنا، ورسم صورةٍ حضاريّةٍ لها ولنا.

على ضفّةٍ أخرى؛ نتلمَّس بوضوح أثر الإسراف العاطفيّ في التّعاطي مع المجريات التاريخيّة، والسّماح بشتّى التجاوزات لحقيقة أحداث عاشوراء؛ تحت تأثير المحبّة التي تجنحُ بجمهورها إلى تقبّل ادّعاءاتٍ غريبةٍ تمسُّ ـ بشكلٍ ذكيّ ـ أشخاص الذكرى وأهدافها.

يُعتبرُ تأريخ العجائبيَّات أحد أقسى مظاهر الخرافة الّتي تقدح بسرديّة الثورة الحسينيّة؛ ولعلّها الأكثر خطراً على استمراريّتها في البيئات المعرفيّة التي تميل إلى النُّضج.

أن تُمطر السّماء دماً لأربعين يوماً، أو تتضارب الكواكب والأفلاك، ويسودّ وجه الشّمس حزناً، وليس انتهاءً بحوارات الرأس الكريم المقطوع مع حامليه طوال الطّريق...! وجلّ تلك المرويّات المريبة الّتي ادَّعاها أشخاص كالراوي الخاصّ بجيش الكوفة حميد بن مسلم، أو نقلها مؤرّخون أمويّون حتى النخاع، كابن عساكر، في كتابه "تاريخ دمشق"، دون أن يثير ذلك حفيظة من يهتف بالذّكرى وينتمي إلى مشروعها.

ليسَت ثمّة أداةٌ أكثر براعةً في تفريغ أهداف الثّورة، من الخرافة.

القاعدة البديهيّة ـ الغائبة تقول: لا يكفي أن نستنفر الجهود والطّاقات والوعي العام لإحياء الذكرى على أيِّ شاكلةٍ وبأيّة آليّاتٍ متاحة، فمهما بلغت حماسة السّير على طريقٍ خاطئ، لا يمكن أن يوصلنا إلى جنَّة الصّواب يوماً.

"مجانينُ
الحسين"

في قاموس المواسم العاشورائيّة، تزدهرُ مفرداتٌ مُربكةٌ بين الآونة والأخرى؛ بعضُها تصطنعها الأجواء الاجتماعيّة أو السياسيّة المخيّمة، وبعضها الآخر لا يعدو كونهُ نتيجةً لهبوطٍ في قيمة الخطاب العزائيّ، وسطحيّة أفكاره، وفقر المعرفة التي يُفترض به أن يقدِّمها للجمهور.

"الجنونُ" كان المفردة الأغرب في تاريخ التّثقيف للثورة الحسينيّة.

العقلُ المذهل لحركةٍ سياسيّةٍ قهرت أعتى نظامٍ ملكيٍّ في العالم آنذاك، وأعلت كلمة الحقّ المدمى على إنباء السّيف، لم يشفع لها أمام سطوة المنابر الرجعيّة التي اغتالت جانباً من وعي الثّورة.

يفتخرُ بعض الطقوسيّون اليوم بجنون طقوسهم؛ ويُباهون بشعاراتهم وحتى النّقش على أجسادهم بأنّهم "مجانينُ الحسين"!

لا يتصوَّر عاقلٌ قرأ التّاريخ الإسلاميّ أنَّ مشروعَ الحسين كان مشروعاً جنونيّاً، أو مُنتجاً للجنون.

ثمّة جنونٌ في بعض الشّعائر، وجنونٌ في قبول المرويّات العجائبيّة، وجنونٌ في التطرّف المذهبيّ، وكلُّ ذلك باسم العاقل الوحيد الّذي حارب جنون الانحراف في أمَّة جدّه!

لا بُدّ من أن تكون تلك الدمعة على الحُسينِ المصلحِ دمعةً عاقلة وحزناً عاقلاً؛ يُفضي إلى إنضاج العاطفة في الذّات الإنسانيّة، غير أنَّ العائق الأبرز في هذا الإطار، هو المنبرُ ذاته الّذي يُفترض به أن يُروّج لخطاب العقل ومفرداته.

ومن منطلق خبرةٍ مديدةٍ في عالم الخطابة الدينيَّة؛ فإنَّ الخطيب مضطرٌّ إلى إحدى تقنيّتين، الفشلُ ثالثهما، وهما:

أن يشحنَ خطابهُ بالأفكار والمعرفة النوعيّة واللّغة الشيّقة، أو يُحاول ذلك أقلّه. أو أن يُغرِقَ جمهورهُ بوابلٍ من العجائبيّات والمعاجز والكرامات التي تُربكُ عقلهُ؛ وتوهمهُ ببراعة فارس المنبر هذا وأعلميّته. وفي حين يستأثرُ مُروِّج الخرافة بالشّريحة الأبسط والأوسع، يقنعُ الخطيب المثقّف بمحدوديّة جمهوره النخبويّ. أمّا المنبر الحسينيُّ، فهو مأزومٌ بعددٍ من أولئك الّذين يستغلّون العاطفة بأبشع صورة، وينحرفون ببعض خطابه من وعي الثّورة إلى انفعال الجمهور.

ثمّة منهجةٌ مريبةٌ لصناعة الجنون في ثورة العقل هذه، ينبغي أن تولى حقَّها من الدراسة والتنقيّة.

في مراحل سابقة، كانت تُثار زوابعُ خجولةٌ حول الطّقوسٍ أو الشّعائر المخترعة، وغالباً ما تخمدُ بسبب جهلٍ مُستشرٍ، أو تراخٍ من السّلطة الحاكمة للمعرفة الدينيّة.

أمَّا اليوم، فواقع الانفتاح المعرفيّ الذي يكتسح الإنسانيَّة بتصاعدٍ واضح، لن يتركَ أمام جيل المعرفة الجديد غير المثقّف دينيّاً ـ إن لم ننجدهُ ببدائل مقنعة ـ إلّا باباً واحداً للتَّصالح مع العقل، هو الابتعاد عن الطّقوس الّتي تمثّل الدّين، وصولاً إلى الابتعاد عن الدّين ذاته.

البيئة الَّتي تُحارب مشاريع "العقلنة" تحاربُ "المستقبل"، ولا طاقةَ لموروثٍ أو قداسةٍ زائفةٍ أو عروشٍ مذهبيَّةٍ على مواجهة حتميَّة التطوّر. "العقلنةُ" هي المفتاح الوحيد لبناء حضارةٍ دينيَّةٍ في عالم الحداثة.

* باحث وأستاذ حوزويّ، جريدة الأخبار اللّبنانيّة
https://taghribnews.com/vdcf01d0vw6dxea.kiiw.html
الإسم الثلاثي
البريد الإلكتروني
أدخل الرمز