ثمة اسباب ثقافية وعوامل سياسية وبواعث ايدلوجية ساهمت كلها في نشوء وانتاج ظاهرة العنف الديني في مجتمعاتنا الاسلامية المعاصرة .
شارک :
بقلم : محمد محفوظ
حين التأمل في الظواهر الإنسانية ، نجدها دائما وليدة عوامل وأسباب مركبة ومتداخلة مع بعضها البعض ، وتتطلب أكثر من منهجية معرفية لدراسة وتفسير هذه الظاهرة .
ولعل من أبرز الظواهر التي برزت في الآونة الأخيرة في واقعنا العربي والإسلامي ، هي ظاهرة استخدام العنف لأغراض دينية أو لبواعث دينية .
فأضحت لدينا ظاهرة ما يمكن تسميتها بالعنف الديني . والمقصود بها هي مجموع الممارسات العنفية المعنوية والمادية والتي يمارسها الآحاد أو المجموع لبواعث دينية ومن أجل غايات وأهداف دينية .
ولا ريب أن أسباب وعوامل نشوء هذه الظاهرة ، هي أسباب وعوامل متداخلة مع بعضها البعض . فثمة أسباب ثقافية وعوامل سياسية وبواعث أيدلوجية كلها مع غيرها ، ساهمت في إنتاج وتوليد ظاهرة العنف الديني في مجتمعاتنا الإسلامية المعاصرة . ولكونها ظاهرة إلى منهجية متكاملة وواسعة لقراءة هذه الظاهرة وتفسيرها التفسير الصحيح . لأننا نعتقد أن التفسير الصحيح للظواهر الإنسانية ، هو الذي يقودنا إلى معالجات صحيحة وسليمة .
وإن الارتباك والتخبط على مستوى الحلول والمعالجة .
لذلك ثمة ضرورات معرفية واجتماعية وثقافية ، للاعتناء ببناء تفسيرات دقيقة لكل الظواهر الإنسانية أو السياسية أو الثقافية أو الاقتصادية ، التي تبرز في واقعنا ومجتمعاتنا .
وتأسيسا على هذه القناعة العميقة ، نحن نعمل في هذه الدراسة على تحليل وتفسير ظاهرة العنف الديني من زاوية ثقافية . بمعنى كيف نقرأ ظاهرة العنف الديني ثقافيا ، وكيف تفسر المنظومات الثقافية ظاهرة استخدام العنف بكل مستوياته ببواعث وغايات دينية .
واستخدام مصطلح [ ديني ] ، لا يعني هنا ألبته ، أن قيم الدين الأساسية والجوهرية ، هي التي تحرص على ممارسة العنف ، وإنما المقصود أنه ثمة قراءات وتفسيرات لقيم الدين تشرع ممارسة العنف ضد المختلف والمغاير . فربط العنف بالديني هنا المقصود به هو أن بعض أشكال التدين المغيوش هو الذي يحرص على العنف ويسوغ استخدامه .
محاولة للفهم
وقبل الدخول في صلب الموضوع من الضروري القول : إننا ضد كل أنواع العنف والإرهاب ، لأنها من الوسائل التي لا تنسجم وقيمنا الإسلامية وأعرافنا الإنسانية وتقاليدنا العربية .. لهذا فإننا ننظر إلى ظاهرة العنف والإرهاب ، بوصفها ظاهرة مرضية خطيرة ، ينبغي أن تدان من جميع الأطراف ، ولا بد أن يعمل الجميع من أجل تفكيك موجباتها وإنهاء أسبابها المباشرة وغير المباشرة ، مع يقظة أمنية وحزم أمني تجاه كل من يعبث بأمن الناس ومصالحهم المختلفة ..
ولكن رفضنا لهذه الظاهرة الخطيرة ، لا يعني التغافل عن أهمية العمل لبناء تصور وتفسير علمي لهذه الظاهرة ..لأن التفسير الصحيح لهذه الظاهرة بكل ملابساتها ، هو الخطوة الأولى في مشروع مواجهتها والقدرة على إنهاءها والتغلب عليها ..
فنحن في الوقت الذي نرفض هذه الظاهرة ، ونحارب كل أشكالها ومستوياتها ، في ذات الوقت نشعر بأهمية العمل على خلق تصور صحيح عن أسباب هذه الظاهرة وعواملها المباشرة ، التي تفضي إلى خلق المزيد من الإرهابيين أو تمدد ظاهرة العنف الديني ، حيث تستخدم وسائل القتل والتدمير والتفجير تحت عناوين ويافطات دينية ..
والذي يؤكد أهمية العمل على بناء تصور صحيح لهذه الظاهرة ، هو حتى لا نبتعد عن أسبابها وموجباتها الحقيقية.. فحينما يحدث حدث إرهابي أو عنفي في أي دولة عربية وإسلامية ، تبدأ الأصوات المتهمة للخارج بالبروز مع تغافل تام عن احتمال أن هناك عوامل أو أسباب مستوطنة في البيئة الداخلية هي التي تنتج هذه الظاهرة ، وتمدها بكل أسباب الاستمرار والحياة ..
فالخطاب الدوغمائي والتبريري الذي يتهم الخارج دون التفكير في البيئة الداخلية ، هو خطاب يساهم في تزييف وعينا تجاه هذه الظاهرة الخطيرة ..
ونحن هنا لا ننفي دور الخارج التخريبي والإرهابي ، ولكن ينبغي أن لا يكون هو الشماعة التي نعلق عليها كل خيباتنا وإخفاقنا وعيوبنا ..
القرآن الكريم يعلمنا إنه إزاء كل ظاهرة سلبية ومرضية تصيب واقعنا وبيئتنا الاجتماعية وقبل أن نفكر في العوامل والأسباب الخارجية ، التي أوجدت هذا المرض أو تلك المشكلة ، أن نوجه نظرنا وتفكيرنا إلى الأسباب والعوامل الداخلية التي ساهمت في صنع هذه المشكلة أو ذلك المرض .. إذ يقول تبارك وتعالى [أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير ](سورة آل عمران 165) فما يعيشه العالم العربي من انفجار لهوياته الفرعية وتشظيه بعناوين طائفية ومذهبية وقبلية وجهوية ، هو نتاج طبيعي لبعض الخيارات السياسية والاجتماعية التي سادت في العالم العربي ، وعملت عبر وسائل قهرية لتغييب حقيقة التعددية الموجودة في المنطقة العربية ..
إن تغييب حقائق المجتمعات العربية بطريقة عنفية – قسرية ،هو المسئول الأول عن ما يشهده العالم العربي من نزاعات واحتقانات وتوترات ذات طابع فئوي أو طائفي أو جهوي.
والخارج هنا ليس محايدا أو بعيدا عن استثمار هذا الواقع لصالح أهدافه ومخططاته في المنطقة .. ولكن هذه الخيارات السياسية الخاطئة الشوفينية هي التي هيأت الأرضية الاجتماعية لبروز توترات وأزمات أفقية وعمودية في الواقع العربي ، عمل الخارج بدهائه ومؤامراته وأجهزته الأمنية المختلفة لاستثمار هذا الوضع ،والعمل على إذكاءه بما يناسب مصالحه وخططه الاستراتيجية في المنطقة العربية ..
فعمليات العنف الديني التي تجري في أكثر من قطر وبلد عربي ، هي من صنع بيئتنا الثقافية والاجتماعية والسياسية ، وإن الصراخ الدائم باتجاه الخارج ، وكأن بيئتنا العربية خالية من هذه النزعة ، وبعيدة عن أمراضها وحواملها ، لا يساهم في توفير القدرة العربية على المواجهة الحقيقية لهذه الآفة الخطيرة التي تهدد العديد من بلداننا العربية في أمنها الوطني ونسيجها الاجتماعي واستقرارها السياسي ..
فالذي يفجر الكنائس في العراق أو مصر أو أي بلد عربي آخر ، ليس هو الأجنبي ، وإنما هو التيار العنفي – التكفيري الذي بدأ بالبروز في العالم العربي ..
والذي يقتل الناس في العراق على الهوية ، ويدمر دور العبادة ،ويستهدف الأبرياء في الأسواق والمنتزهات ، ليس هو الأجنبي ،وإنما هي الفئة الإرهابية المغالية في الدين ، والتي تمارس كل فنون القتل باسم الدين والدفاع عن مقدساته ..
العنف والتطرف أية علاقة
فالعنف الديني في المنطقة العربية ، هو نتيجة طبيعية لظاهرة الغلو والتطرف الديني .. وإن من يحارب العنف والإرهاب ، دون محاربة الغلو والتطرف ، فإنه لن يصل إلى نتائج حاسمة على هذا الصعيد .. لأن خيار الغلو والتطرف سيخلق المزيد من الإرهابيين .. ومن يسعى إلى محاربة الإرهابيين ، فعليه مواجهة أسبابه وحوامله وموجباته الدينية والثقافية والسياسية والاجتماعية .. لهذا فإننا نعتقد وبعمق ، أن فهم ظاهرة العنف والإرهاب بشكل صحيح وسليم ، هو الخطوة الأولى في مشروع مواجهة هذه الظاهرة الخطيرة على حاضرنا ومستقبلنا ..
فنحن ندين تفجير الكنائس والمساجد ودور العبادة ، كما ندين قتل الأبرياء أنى كانوا .. ولكن الإدانة والاستنكار بوحدهما ، لا ينهيان هذه الظاهرة ، بل سيستمر أهل العنف بعنفهم وأهل الإرهاب بإرهابهم ، لأن الإدانة بوحدها لن تغير من المناهج الثقافية والدينية التي تخلق الإرهابي ، ولأن الاستنكار بوحده لن يحول دون استمرار قافلة الإرهابيين من القتل والتفجير ..
فالاستنكار بوحده لا يكفي ، واتهام الخارج بهذه الأعمال ، يزيف الوعي ويساهم في غبش الرؤية واختلال نظام الأولويات ويحول دون العمل الصحيح لمعالجة هذه الظاهرة .. وأكرر هنا إنني لا أبرأ الخارج من هذه الأعمال فهو يوظفها لصالح مخططاته ومصالحه ..
التحالف الموضوعي
أي هناك مصلحة موضوعية وتحالف موضوعي بين القائمين بأعمال العنف والإرهاب في العالم العربي ، وبين الدوائر السياسية والأمنية للدول الكبرى .. حيث أن عمليات العنف والإرهاب ، تساهم في تفكيك النسيج الاجتماعي في العالم العربي ، وتزيد من محنه الداخلية وتوتراته بين مختلف مكوناته وتعبيراته .. ومن مصلحة الخارج أن يوسع من هذه التوترات ، ويضغط على العالم العربي في ملفات إستراتيجية وحساسة وهو يعاني الأزمات الداخلية المستعصية .. لهذا فهناك ما يشبه تبادل الخدمات بين الأطراف الدولية التي لها أجندة ومخططات سياسية وإستراتيجية في المنطقة والجماعات الإرهابية التي تمارس العنف والإرهاب باتجاهات مختلفة ، مما يزيد من التوترات والأزمات ، ويوسع من ثغرات الداخل العربي ..
فالتخادم الموضوعي المتبادل بين القوى الأجنبية وقوى الإرهاب والتطرف والعنف في المنطقة ، ينبغي أن يقودنا جمعيا للعمل على تطوير الأوضاع السياسية والقانونية والاقتصادية في مجتمعاتنا العربية ، حتى نتمكن من تحصين الأوضاع الداخلية العربية وفق أسس صلبة ، تحول دون تحقيق اختراقات أمنية سواء أجنبية أو إرهابية ..
فإصلاح الأوضاع وتطوير الحياة السياسية في كل بلد عربي هو الطريق الأسلم لإنهاء مخاطر العنف الديني في العالم العربي ..
أيدولوجيا العنف
لعلنا لا نجانب الصواب ، حين القول : أن كل نزعة أيدلوجية منغلقة ، هي بالضرورة صانعة أو حاضنة للتعصب ، وطرد المختلف ، ونبذ المغاير .. لأن النزعات الأيدلوجية المنغلقة بطبيعتها ووفق بنيتها الداخلية ، لا ترى الحق والحقيقة إلا لديها ، ولا يتسع عقلها وقلبها وحسها ، إلى مشروعات أو نظريات مغايرة أو مختلفة معها .. لذلك ثمة صلة عميقة تربط النزعات الأيدلوجية المغلقة بصرف النظر عن مضمونها وآفة التعصب الأعمى وكل مخزونها العدائي والإقصائي للآخرين ..
فالنزعات الأيدلوجية المغلقة الدينية أو الوضعية ، تكون ممهدة وراعية لكل النزعات التعصبية التي تنشأ إما من قلب هذه النزعات الأيدلوجية أو على ضفافها وهامشها ..وعليه فان هذه النزعات الأيدلوجية حينما حكمت وسادت في الفضاء الاجتماعي والسياسي ، فإنها استخدمت أدوات الدولة ومقدرات السلطة لتعميم قناعاتها ونظامها الفكري ، ومارست كل أشكال الحيف والقهر والظلم بحق كل الوجودات الاجتماعية المغايرة لها أو غير المنسجمة معها سواء على مستوى الأصول أو مستوى الفروع .. وذات الممارسة والسلوك ، مارست النزعات الأيدلوجية الدينية المغلقة والدوغمائية ، فإنها حولت الدين ومنظومته المعيارية كغطاء ومسوغ لطرد المختلفين معها ونبذ المتمايزين مع تفسيرها وقناعاتها المركزية والفرعية .. وما تمارسه الجماعات الأيدلوجية الدينية المغلقة والتعصبية من تكفير الناس وقتلهم والتفنن في إيذائهم المادي والمعنوي ، ما هو إلا تجسيد عملي للقناعة الفكرية الآنفة الذكر .
أن كل منظومة أيدلوجية مغلقة بصرف النظر عن جوهرها الفكري ، هي بالضرورة صانعة للتعصب ، ومشجعة للمفاصلة الشعورية والعملية مع المختلفين مهما كانت درجة الاختلاف والتباين .. لأن المنظومات الفكرية المغلقة ، لا ترحب بالتعدد ، وتنبذ الاختلاف ، وتحارب ثقافة السؤال ، وترفض النقد والمراجعة .. وتغطي كل هذه الممارسات الشائنة بعقلية تعصبية ، تظهرهم وكأنهم الأحرص على قيم المجتمع والأمة ، وهم على المستوى العملي أول من ينتهك قولا وفعلا قيم الأمة والمجتمع .. لذلك فإننا نعتقد أن مواجهة ظاهرة التعصب الأعمى للذات وقناعاتها وتاريخها وأفكارها ، يتطلب رفض كل النزعات الأيدلوجية المغلقة سواء كانت حاكمة أو محكومة ، لأنها نزعات تستدعي كل أشكال التعصب ، وتمدها باستمرار بكل أسباب الحيوية والفعالية والاشتغال ..
لذلك لا يمكن محاربة ظاهرة التعصب ، إلا بالوقوف بوعي ضد كل النزعات الأيدلوجية المغلقة ، التي لا ترى إلا ذاتها وجماعتها ولا يتسع منطقها لمنطق التعدد والتنوع والانفتاح ..لذلك هي تحارب كل هذه القيم ، لأنها قيما مضادة لنهجها ومسيرتها الأيدلوجية والاجتماعية ..