إن لم تكن يهودية الدولة شأننا ، فشأن مَنْ هي إذن ؟!
وكالة أنباء التقريب (تنا): فتحت تصريحات أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية ، كوّة في جدار الموقف الفلسطيني الرافض بإجماعه الاعتراف بإسرائيل "دولة يهودية وديمقراطية".
شارک :
وتجري الآن جهود فلسطينية حثيثة لإغلاق هذه الكوّة ومحاسبة الذين فتحوها، ولكن من دون أمل كبير في إحراز تقدم ملموس في هذا المسعى، والسبب أن تصريحات ياسر عبد ربه تعبر عن رأي تيار نافذ في السلطة والمنظمة وحكومة تصريف الأعمال، أسميناه "تيار الرئيس"، وهو التيار الذي وإن كان قليل العدد إلا إنه عظيم التأثير والنفوذ.
لم تمض سوى ساعات قليلة على إطلاق تلك التصريحات، حتى كان الرئيس محمود عباس يدلي بدلوه في الجدل الفلسطيني المحتدم حول الموقف من "يهودية الدولة" ومعادلة عبد ربة الجديدة: مقايضة الاعتراف بإسرائيل على هذا الأساس مقابل الحصول على خريطة تعتمد خط الرابع من حزيران، أساساً لترسيم الحدود بين "دولتي الشعبين"، والمؤسف حقاً أن الرئيس قال شيئاً في مكان ونُسب إليه نقيضه في مكان آخر، لكأننا ما زلنا في سياق مرحلة "التهيئة" و"إعداد المسرح" و"جس النبض" و"شق الطريق" للقبول بالشرط الإسرائيلي الجديد.
فهو ارتأى في مؤتمر صحفي مشترك مع رئيسة فنلندا أن مسألة "يهودية الدولة" ليست شأناً فلسطينياً، مبيناً أن الفلسطينيين الذين سبق لهم في العام ۱۹۹۳ أن اعترفوا بإسرائيل، ليسوا معنيين بهذا الأمر، وأن على إسرائيل أن تراجع الأمم المتحدة إن قررت إعادة تعريف نفسها. لكن وفد الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة والذي ضم عددا من النواب العرب في الكنيست الإسرائيلي برئاسة محمد بركة، نقل عن عبّاس التزامه بالثوابت الفلسطينية وعدم تفريطه بها، وأن الوفد تلقى رسالة "طمأنة" من الرئيس عباس، والطريف في الأمر أن اللقاء قد تم، و"رسالة الطمأنة" قد بُعًثت إلى من يعنيهم الأمر بحضور ياسر عبد ربه، صاحب التصريحات غير المُطمئنة، بل والمثيرة لكثير من مشاعر السخط والقلق ؟
لا أدري كيف يمكن لمن هو في موقع "الممثل الشرعي الوحيد" للشعب الفلسطيني في كل مكان، أن يرى "يهودية الدولة" كشأن خارجي لا يخص الشعب والمنظمة، ولا أدري كيف اطمأن وفد الجبهة إلى استمساك الرئيس بالثوابت، وهل ينسجم هذا الاستمساك مع موقف "اللا موقف" من "يهودية الدولة" ، ولماذا لا تسري هذه الطمأنينة في عروق بقية النواب العرب في الكنيست، بل وفي عروق القطاع الأوسع من الجماهير العربية في إسرائيل.
حين يتعلق الأمر - أي أمر - بحق خمسة ملايين لاجئ فلسطيني في العودة إلى وطنهم، فإن هذا الأمر يعنينا، بل ويعنينا جميعاً، ويعنينا جداً...وحين يتصل الأمر - أي أمر - بحق مليون ونصف المليون فلسطيني صامد على أرض وطنه، فإن الأمر يعنينا أيضاً، بل ويعنينا للغاية، ولا يمكن بحال من الأحوال، أن يكون أي شخص أو جهة ممثلا شرعياً وحيداً لشعب فلسطين، وهو يتخلى بصورة صريحة أو مواربة عن حقوق غالبية الفلسطنيين في الوطن الأصلي والشتات.
ثمة مدرسة (نافذة) في التفكير السياسي الفلسطيني، تسعى في فصل قضية الشعب الفلسطيني عن أرضه، واختصار الأخيرة بالضفة الغربية وقطاع غزة، أو "ما تيسّر منها"، واختزال الشعب الفلسطيني إلى الشعب المقيم على هذه البقعة الجغرافية الضيقة، هذه المدرسة تخلت مبكراً عن حق شعب فلسطين اللاجئ في العودة إلى وطنه، وهي سلّمت منذ زمن بعيد بأن مصائر عرب ۴۸ تندرج في سياق الشؤون الداخلية لدولة جارة لا يجوز أن نتدخل في شؤونها، وقد عبّرت هذه المدرسة عن نفسها في مواقف وسياسات ومبادرات، لعل مبادرة جنيف واحدة من أبرزها، إلا إنها لا تختصرها.
وها هي تداعيات هذه المدرسة وإفرازاتها تتجلى في مقايضة "يهودية الدولة" بحدود ۶۷، وترى الأمر شأنا لا يعنينا، وربما يصبح بعد حين"ضرب من ضروب التدخل الاستفزازي في الشؤون الداخلية لدولة أخرى، لا يليق بنا مقارفته"، ومع ذلك تزعم هذه المدرسة أنها لم تتخل عن أي من ثوابت الفلسطينيين؟...أليس حق العودة ثابتاً من ثوابت الفلسطينيين، أليس الدفاع عن حقوق فلسطيني ۴۸ - الفردية والجمعية، المواطنة والوطنية، ثابتاً من ثوابت النضال الفلسطيني المعاصر؟؟
من يقبل باختزال القضية الفلسطينية من قضية شعب وأرض، إلى قضية أرض ترسمها خطوط حزيران ۶۷ ، سيقبل باختزالات واختصارات أخرى، وسينتهي به المطاف إلى "دولة الحدود المؤقتة" و"سلامها الاقتصادي"، وسيندرج في "الحل الانتقالي بعيد المدى"، ومن دون أن يطلب إليه الكف عن الكلام المباح عن الحقوق والثوابت. ياسر عبد ربه فتح كوّة في جدار الإجماع الفلسطيني الرافض يهودية الدولة العبرية، والرئيس عباس جاء ليوسع هذه الكوة بدل أن يحكم إغلاقها، و"الحبل عَ الجرار". مقالة بقلم: عريب الرنتاوي