وكالة أنباء التقريب (تنا): لاشك أن الأمة الإسلامية منذ سنين متكاثرة تواجه تحديات كثيرة ولاسيما بعد هيمنة الاستعمارعلى عالمنا الإسلامي وتدخُّّل الأعداء في شؤونه، مما أدى إلى نبذ الخلافات بين أبناء الأمة وتفاقم الأزمات فيما بينهم.
شارک :
ومما لاريب فيه أن الإنسان أخو الإنسان، ومهما كان الاختلاف بينهم، فهم من طبقة واحدة؛ والإسلام في مبادئه ساوى بين كل الناس، بين الغني والفقير، والمرأة والرجل والوالي والعامل، فالكل متساوون أمام الله تبارك وتعالى وأكرمهم عند الله أتقاهم؛ قال الله تعالى: { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا أن أكرمكم عند الله أتقاكم}.
إذن، بُني الاسلام على أساس الوحدة وتعزيز الروابط الاجتماعية، فجاء الإسلام بدعوات مخلصة، كمساواة، وعدالة، ومحبة، وألفة، وتعاون، وأخوة، ورأفة، ورحمة، و...الخ. فالشريعة الإسلامية لا تدعو إلى الطائفية والعصبية والخلاف، وإنما تدعو إلى الوحدة الشاملة بين المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها. ومن هذا المنطلق نرى أن الرسول (ص) حذّر من الفتنة والطائفية إذ قال: المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، التقوى ها هنا، و يشير الى صدره الشريف ثلاث مرات قائلا: كل المسلم على المسلم حرام دمه، ماله، عرضه. (رواه المسلم)
فتهدف هذه الدراسة إلى معالجة أهم التحديات التي تواجه الأمة الإسلامية وتهدد كيانها من جميع النواحي؛ ألا وهي الطائفية سرطان الأمة وقاتل أبنائها. تبدأ المقالة - بعد المقدمة - بتبيين مفهوم الطائفية لغة واصطلاحا، ثم تتناول نشأة الطائفية وانتشارها تناولا تاريخيا منهجيا وتعالج هذه الظاهرة كأهم تحديات الأمة الإسلامية مشيرة إلى نموذج منها على أرض الواقع ، وتختتم بتقديم بعض المقترحات.
مفهموم الطائفية الطائفية شكل من أشكال التمييز، مثله مثل العنصرية والعرقية والشوفينية والطبقية والجنسية وغيرها من الأشكال الأخرى. وتختلف الطائفية عن كل هذه الأشكال في الأساس الذي يقوم عليه هذا التمييز. فإذا كانت العنصرية تقوم على اللون والعرقية تقوم على العرق والشوفينية تقوم على الهوية القومية والطبقية على الموقع الذي يتخذه الفرد أو الجماعة في الهرم الاقتصادي الاجتماعي والجنسية على أساس الجنس أو النوع (Gender)، فإن الطائفية تقوم على أساس المعتقد سواء أكان دينيا أم أيديولوجيا.
ولعل موضوع "الطائفية" واحد من الموضوعات التي شهدت نوعا من الخلط المفاهيمي والتداخل في المعاني والاصطلاحات الذي لم يزدها إلا غموضا وقد دفع ذلك إلى تأزيمها، بل تفجيرها. ومن هذا المنطلق أرى أن هذا الموضوع بحاجة إلى نوع من التبسيط والتبيين.
فمفهوم "الطائفية" – لغة- مأخوذ من "طاف يطوف طوافا فهو طائف"؛ فالبناء اللفظي يحمل معنى تحرك الجزء من الكل، دون أن ينفصل عنه، بل يتحرك في إطاره، وربما لصالحه. {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُل فِرْقَةٍ منْهُمْ طَآئِفَةٌ ليَتَفَقهُواْ فِي الدينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلهُمْ يَحْذَرُونَ}. وهو أيضا مفهوم يشير إلى عدد قليل من البشر؛ إذ لا يتجاوز -لغة- الألف من الأفراد.
أما الطائفية -اصطلاحا- فهي التعصب لأفكار ومعتقدات تنتسب في الأصل إلى دين معين، دون آخر، أو مذهب دون آخر. والطائفية عكس الوطنية التي تتبنى مبدأ المساواة والعيش دون أي تمييز، والطائفي هو من يحمل تلك المبادئ على أسس طائفية وعنصرية بحتة الغاية منها المحاباة لطائفته دون الأخرى وإلغاء الآخرين دون المبالاة بأي روابط أخرى مع أبناء مجتمعه.
نشأة الطائفية وانتشارها إن الفرز الطائفي في صيغته "العقائدية" كان نتيجة صراعات لاهوتية بالأساس، ترجع بداياته المبكرة إلى مرحلة النزاع الذي حصل بين صحب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والذي كانت بوادره موجودة في حياته، ولكنه كان بحكمته واحتوائه المذهل للفرقاء الذين عاشوا في فترة الجاهلية، إرثا هائلاً من الشحناء والاختلاف، يحمل أبعاداً عشائرية.
لكن الانشطار الذي حصل بعد وفاته في تحديد الخليفة وما تبع ذلك من فتن وأزمات، تكللت بانتهاء ما سمي بـ"الحقبة الراشدية" على يد الدولة الأموية، التي كانت في حقيقتها ذات توجهات براغماتية سياسية أكثر من تعبيرهــا عن الدولة الدينية، إذ أعلن معاوية خلافته بشام وأدخل على نظام الحكم مبدأ الوراثة الذي ينافي روح الاسلام، ومن هنا بدأ الخلاف بشكل أقوى. ثم جــاءت الفترة العباسية وأصبحت الخلافة في هذا العصر وراثية تماما.
وفي هذه الفترة طرأت ظروف جديدة وهي تدخل الأتراك في شؤون الدولة مما أدى إلى تفاقم أزمة الخلافة؛ هذا وقد حرص الزعماء العباسيون على الاستفادة من الدرس الطائفي بشكل كبير، من خلال الاستقطاب المذهبي الطائفي عبر التأسيس على أحقية الانفراد بالسلطة، مما أدى إلى تحول العراق وقتذاك، إلى ساحة صراع طائفي، كما ساهم في تشكل تيارين أساسيين ليس فقط على أساس الاعتقاد، وإنما على أساس الهم السياسي، وهما الشيعة والسنة. وكان للتحولات الاقتصادية الضخمة التي جنتها السلطة العباسية، أثر بارز في تأسيس الامبراطورية العباسية، التي أكدت على بعد الحكم الديني، اعتماداً على الحق الإلهي المطلق فيما جعل خصومهم يؤسسون للرمزية التضحوية، أو المعارضة الممثلة للإسلام المغيب، والتي كانت تعمل بشكل سري سرعان ما انتقل إلى أعمال وثورات مسلحة، أفلحت في حقب تاريخية لاحقاً إلى تأسيس دول "إمامية"، قائمة على المذهب الشيعي، في مقابل دول "خلافة" قائمة على النظرية السياسية السنية التي تم إنتاجها بشكل يأخذ في عين الاعتبار هذا التمايز الطائفي، وهو الأمر الذي صبغ تلك المرحلة بهشاشة سياسية على مستوى السيادة، وعلى مستوى العلاقات بين القطاعات المختلفة من المجتمع، الأمر الذي تعمق بشكل كبير مع انتشار الصراعات المسلحة، حتى بلغ الأمر ذروته مع تأسيس الدولة الفاطمية، في مقابل الدولة العباسية، مما ساهم في تحويل الصراع العقائدي إلى أدوات سياسية تستخدمها السلطة لقمع الخصوم وتجريم المعارضة. واستمر هذا التأليب الطائفي المتبادل، وكان من نتائجه الصراع المرير بين العثمانيين والصفويين، الأمر الذي شكل لاحقاً تيارات سياسية مستقلة قائمة على الانتماء الطائفي، لم تكن معنية تماماً بالجدل الديني، بل كانت مجرد تنظيمات سياسية جماهيرية، أكثر من كونها جماعات دينية تمارس خصوصيتها المذهبية.
استمرت الخلافات الطائفية عبر العصور حتى وصلت إلينا. وأما العوامل التي أدت إلى تفاقم الأزمة وانتشارها في أيامنا هذه، فنستطيع تلخيصها كالتالي: ١- دسائس الأعداء التي تستهدف في كل مكان وزمان تمزيق كيان الأمة وبث الخلاف بين أبنائها بغية انهيارها من الداخل مما تخدم المخططات الاستعمارية التي لاتريد الاسلام ولا الأمة الاسلامية.
٢- ضغوط اتجاهات التعصب والتشدد، والتي استفادت هي الأخرى من تداعيات الفتن الطائفية، وكثّفت نشاطها التعبوي، وخطابها التحريضي، وأحاطت رموز التقريب والوحدة بأجواء ضاغطة قاسية، عن طريق تضخيم بعض الأحداث، واختلاق الأخبار، وكتابة التقارير المغرضة، وصنع الشائعات، وتقديم التفسيرات المشبوهة والتحاليل الخاطئة، وجرى التركيز على بعض الرموز والشخصيات الإسلامية التي كان لها دور محمود في الدعوة إلى التقريب والوحدة، وتحقق ما كان هؤلاء المتشددون يعملون له مع شديد الأسف، حيث وقع بعض رموز الاعتدال في فخ مخططهم المعادي لمسيرة الوحدة والتقريب.
٣- الأحداث السياسية التي أخذت صبغة طائفية، كأحداث العراق والتي أدّت إلى مجازر بشعة وتهجير متبادل وفرز طائفي في المواقف، وحملات إعلامية متقابلة، انعكست آثار كل ذلك على النفوس والأذهان في الساحة الإسلامية السنية والشيعية، واستغلها الأعداء لتعزيز مشاعر القلق والريب عند كل طرف تجاه الآخر.
٤- العولمة، خصوصا في تطورها المعاصر الداعي إلى تجاوز الخصوصيات والقضاء عليها ونشر القيم الثقافية الغربية كقيم عالمية. ومن الداعي للتيقظ أن اتجاهات العولمة بدأت تدخل العقل الإسلامي وتعيد بصورة مختلفة اجترار وتكرار تلك الصراعات الفكرية التي عايشتها الساحة العربية والاسلامية خصوصا مع الدعاة الأولين لها أمثال د. طه حسين حين بدأ الدعوة إلى الانخراط في الحضارة اليونانية على أساس أنها العالمية ومن يرثها أيضا هو وريث العالمية.
٥- الجهل وقلّة العلم الشرعي، وعدم الرسوخ فيه، والعصبية للأشخاص والجماعات.
٦- سوء تقدير أهمية الدين في حياة الأفراد وفي صياغة المجتمعات وفي تثبيت منظومة القيم.
٧- شغور مواقع التوجيه من الكفاءات العلمية الممثلة للنموذج المؤثر.
٨- غياب ثقافة إسلامية عميقة قادرة على التأصيل الشرعي للسلوك وعلى تطويق الاختلاف.
تحديات الطائفية لا أحد ينكر وجود الشعوب والقبائل حيث يقول الله تعالى "وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم" ، ولكن مهمة بناء الأمة والديمقراطية لا تتم عبر إستنساخها كوحدات سياسية، فهذا تفتيت للأمة وإجهاض لعملية بنائها، ولكن وجود التقسيمات الطائفية والعشائرية لا ينفيها، بل يؤكد ضرورتها والحاجة إليها، وفقاً للمنهج الرباني، وهذا هو التحدي لتحويل الطوائف والعشائر إلى وحدات سياسية تأخذ مكان النعرات الطائفية التي تنم عن جاهلية كما في الحديث "دعوها فإنها منتنة" لأنها تمثل برنامج إعاقة يعمل على تشويه كيان الأمة من خلال حروب أهلية وكيانات متصارعة وقبائل متناحرة .
إذن، لا مشكلة في الطائفية إلا إذا حاولت أن تصير بنية، تنقل إلى مستوى الاجتماع، نظام النعمة والخطيئة، الحلال والحرام، الحق والباطل، الإيمان والكفر، عندها تتحول الطائفية، من تمظهر للدين في سلوك جماعي، إلى تمظهر يخترق مؤسسات الدولة الحقوقية والقضائية والأمنية والسياسية. الطائفة الديانة طغيان ودكتاتورية. المشكلات اللاهوتية والكلامية متحصنة في بنية المعتقد الطائفي. ولكل طائفة مدرسة وعلم وقواعد. لكل طائفة زعماء روحيون، ومراجع دينية.. فالمشكلة ليست في هذا الثراء المعرفي، ولا في هذا الجهد العقلي الرائع، في ارتياد المدى الإلهي، لمقاربته فهماً وتخيلاً وتصوفاً. لا مشكلة أبداً في توسيع الفهم اللاهوتي وارتياد الأبعاد الميتافيزيقية، التي أكسبت البشرية ثروات هائلة في الفكر الديني المتعدد والمتفاوت، والفكر المضاد المتعدد والمتفاوت. الفلسفات في أعماقها البعيدة، أسئلة تلتقي مع هواجس المؤمن، وقلقه الإنساني، وفزعه الكبير، وأفراحه المترعة. الفلسفة، كأمّ حاضنة للحرية، رادت عالم الألوهية، ولم تقصر جموحها على الجسد وما يقيم فيه، وما يحيط به من جغرافيا وأكوان.
ويمكننا أن نلخص أهم تحديات الطائفية في النقاط التالية: أولا: ضعف الأمة: إن الطائفية - بالمعني الذي مرّ بنا آنفا- تؤدي إلى التفرق والاختلاف وكلاهما يسببان ضعف الأمة؛ ولذلك جاء قوله تعالى مُحذّرا، ناهيا عن التنازع الذي يؤدي إلى التفرق والاختلاف. وعقّب على ذلك بالفشل، وذهاب الرياح، فقابل سبحانه: (ولاتنازعوا فََتَفشلوا وتذهبُ ريحُكم). فالطائفية كغيرها من عوامل تفريق الأمة لاتأتي بخير، وإنما تؤدي إلى الوهن، والفشل، والضعف، والهزيمة. وهذه حقيقة لاريب فيها، يعززها واقع الأمة الإسلامية في مراحل تاريخها وسأشير إلى نموذج منها في الحديث التالي.
ولاشك أن أعداء الإسلام لا يتخلون عن أكيادهم ضد الأمة ويوظفون أدوات شتّى لتحقيق غاياتهم التمزيقية، فلذلك، أصبحت الطائفية حلقة من حلقات مؤامرات أعداء الإسلام أصحاب النظرية المشؤومة "فرِّق تسُد". وهذا يلفت أنظار المسلمين إلى أهمية الوحدة، وتجنّب الانقسام والطائفية؛ ففي الوحدة قوة، وفي التفرّق ضعف. تأبى العصيّ إذا اجتمعن تكسّرا وإذا افترقن تكسّرت أعوادا
ثانيا: البغض والكراهية: ومن تحديات الطائفية، البُغض والكراهية، فهما نتيجتان حتميتان، لأن من طبيعة الناس أن يجروا وراء مصالحهم. وهذه المصالح متضاربة، فإذا لم يكن هناك رباط من وحدة التآلف، والمحبة بين أصحاب المصالح، فإنهم يتعادون. وهذا العداء يكون مصحوبا بالتباغض. ولذا، إن الله يلفت نظر المسلمين إلى ما كانوا عليه من عداوة وبغضاء، قبل أن يؤلِّف الله بين قلوبهم، ويشرح صدورهم إلى الإسلام {واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على حفرةٍ من النار فأنقذكم منها كذلك يُبَيّن الله لكم آياته لعلّكم تهتدون}. كما نهى النبي (ص) عن التباغض، لِما يحدثه من تنافر، وانتقاص عرى، فقال: (ولا تباغضوا).
إن الأمة الإسلامية أمة وحدة وألفة ومحبة ورحمة. ولقد أدرك أعداء الإسلام والمسلمين، أنَّ تفكيك الوحدة الإسلامية، وتقطيع أوصال الدولة الإسلامية إلى دول كثيرة، يورث المسلمين التباغض والتدابر والتناحر، وبدا لايشعرون بشعور بعضهم، ولايتألمون لآلام بعضهم، فيسهل السيطرة عليهم. فالطائفية بلورت الاعتداء فيما بين المسلمين، أنفسهم، وحمل بعضهم السلاح على بعض، يضرب كل منهم رقاب أخيه، استجابة لضغائن وأحقاد، تثيرها أهواء النفوس وشهوات الدنيا، ناسين قوله تعالى: {إنما المؤمنون إخوة فاصلحوا بين أخويكم واتفقوا الله لعلّكم تُرحمون} وناسين قوله (ص): (المؤمن أخ المؤمن). فالطائفية لايُحصد منها إلّا البُغض والكراهية.
ثالثا: الأثرة وحبّ الذّات: ومن نتائج الطائفية وتحدياتها، الأثرة وحبّ الذّات، والاستبعاد، فكلّ طائفة تريد أن تستأثر لنفسها، وأن يكون الخير كله لها، وأن يكون الشرّ كله لغيرها. ومن هنا تنشأ الأثرة والأنانية وحبّ الذات. وما هكذا يكون خُلُق المسلمين. لأن المسلم يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ويكره لأخيه ما يكره لنفسه، والأمة الإسلامية، أمة الخير، والمعروف، والتعاون على البرّ والتّقوى، لا على الإثم والعدوان، ليحققوا قوله تعالى { كنتم خير أمة أخْرِجت للنّاس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله}. ومن الخيرية والإيمان حبّ الخير للغير، وتحقيق الأخوة الإنسانية عن طريق التعارف والتآلف { يا أيّها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عندالله أتقاكم إن الله عليمٌ خبير}. وذلك ليشعرهم بضرورة الوحدة والتعاون لئلا يكون بينهم الاستبداد والأثرة.
فهل يأخذ مسلمو اليوم دروسا وعبرا من خير القرون، ومن السابقين الأولين، حينما استقبل الأنصار إخوانهم المهاجرين بالحبّ والودّ والإيثار ولذلك مدحهم الله عزّ وجلّ وأنثى عليهم، وسمّاهم "المفلحون". يقول سبحانه: {والذين تبوءوا الدّار والإيمان من قبلهم يحبون مَن هاجر إليهم ولايجدون في صدورهم حاجة ممّا أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خَصَاصة ومَن يوق شُحَّ نفسه فأولئك هم المفلحون}.
رابعا: ضعف الدعوة إلى الإسلام: إن الأمة الإسلامية هي الأمة المستشهدة على الأمم، وهي التي حملت أمانة الدعوة إلى الله، لإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة ربّ العباد. {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا}. وخيريتها في القيام بتلك الدعوة، ونشر الإسلام { كنتم خير أمة أخْرِجت للنّاس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله}، وأمرهم بتحمل تلك المسؤولية وأداء الأمانة ليستمر الخير في الأمة، وتحيا عزيزة كريمة {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون}.
هكذا فهم المسلمون الأوائل مهمتهم ورسالتهم، وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، وانطلقوا يفتحون الدنيا كلها باسم الله، مشرقاً ومغرباً وشمالاً وجنوباً وكانوا يداً واحدة، وقلبا واحدا، وأمة واحدة، فكتب الله لهم النصر والظّفر. ولكن حينما اختلف المسلمون وتفرّقوا، ضعفت الدعوة إلى الإسلام تبعا لضعف المسلمين، حيث جعلوا الحواجز والسدود فيما بينهم، فلم يستطيعوا إزالة العقبات التي تعترض سبيلها، لأن يد الله مع الجماعة...
وشر ما ابتلى به المسلمون هو التفرّق والتنازع والاختلاف، نتيجة الطائفية والقومية والمذهبية و... وغذى ذلك أعداء الإسلام، ثمّ اتَّهموا المسلمين – بعد ذلك – بالتخلّف والضّعف، وحكموا على الإسلام بالمسلمين. والحق والعدل هو الحكم على المسلمين بالإسلام، لأن قوتهم وعزّتهم ونصرهم في الاستمساك بالإسلام الذي أمرهم بالاعتصام بحبل الله، ونهاهم عن التنازع والتفرّق.
وهانحن نرى في محيط الدعوة الإسلامية جزراً بعد المد. وذلك لأن تفرّق المسلمين شغلهم بأمر أنفسهم، وانغمسوا في شهوات الحياة الدنيا، وقعدوا عن الجهاد في سبيل الله، وأدى ذلك إلى الضعف بعد القوة، والتخلف بعد التقدّم، فظنّ غيرهم – كما ألمحنا- إلى أن الإسلام نفسه هو السبب في هذا التأخّر والضّعف، وبذلك يكون المسلمون – بهذا السلوك – صورة مشوهة للإسلام، تصد الناس عن حقيقته وقبوله.
ومن المؤسف أنّ بعض العوامل ترجع إلى المسلمين أنفسهم، فإن الغربيين يستمدون فكرتهم عن الإسلام من مجرّد رؤيتهم للمسلمين، فإنّهم يرون المسلمين متخاذلين ضعفاء أذلّاء مستذلّين، فرّقت بينهم الأهواء والشهوات، وقعدت بهم الصغائر، وانصرفوا عن عظام الأمور، وأصبحوا مستعبدين مستذلين، ولو كان الإسلام قوياً لما كان المسلمون هكذا. فعلى المسلمين أن يدركوا : {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}. {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}.
فالطائفية دعوة جاهلية نكراء، وحركة هدم وتخريب، وتمزق كيان المسلمين، لأن كُلّاً يتعصب لطائفته، وهكذا تنقسم الأمة الإسلامية الواحدة إلى طوائف شتّى بل إلى أمم شتّى، وما هكذا يكون الإسلام. وما هكذا يكون المسلمون.
نموذج من تحديات الطائفية على أرض الواقع إن تحديات الطائفية انعكست على حياة المسلمين منذ ظهورها وتمتد إلى يومنا هذا وهاهنا نكتفي بذكر نموذج واحد من تحديات الطائفية على أرض الواقع في العصر الحديث وما شكّلت من مشاكل ومصائب للأمة بما فيها من قتل ودمار وخراب و... . فلاريب أن الطائفية أسهمت في إيصال العراق إلى هذا الجحيم الذي نشهده اليوم، والذي بات الخروج منه يصل إلى حد المعجزة، إن كانت هناك معجزات حقاً في علم السياسة وإدارة الأزمات. إن ما يجري اليوم في العراق من مواقف متـباينة من الاحتلال الأمريكي تقفها شيعة العراق وسنته الطائفية المذهبية القديمة أو عربه وأكراده الطائفية العرقية أو علمانيوه وأصوليوه الطائفية المذهبية الحديثة أو مغتربوه ومقيموه الطائفية الثقافية قد يجعل المسلمين عامة والعراقيين خاصة يلتفتون إلي صراعاتهم الداخلية بدءا بتبادل تهم التخوين والتشكيك في النوايا والأهداف وختما بالاقتتال لصالح المحتل الهمجي، فينسون العــدو تاركين له المجال فسيحا لتعميق هذه النزعات الطــائفية.
وذلك هو في الحقيقة مشروع اعادة تشـكيل الشرق الاوســط بهدف تفتيته الطائفي حتي يتحقق الشرط الضروري والكافي لاستحواذ اسرائيل على مقدرات المنطقة بعد أن يصبح الحكم بين الجميع والحامي لكل الأقليات والأغلبيات الكمية التي هي اقليات كيفية بعد استحواذ الايديولوجيات العلمانية بالدبابة العسكرية حتي قبل قدوم الجزمة الأمريكية. وقد اختير لهذا المشروع اسم تعميم الديموقراطية على العرب والمسلمين لكي يكون دثاره براقا الظاهر نور وشعاره مهراقا الباطن دم.
ومن الواضح أن الخلاف المذموم داخل بنيان المجتمع العراقي قد دبّ الى صفوف أبنائه من خلال اجتهادات وفتاوى فقهاء الموت وقادة العقائد الفاسدة التي تأمر بوجوب خطف الناس من جنسيات متعددة وهم أبرياء وذبحهم بطريقة وحشية والاغتيالات السياسية والعلمية والفكرية وحرق الأبنية الاقتصادية للبلاد وقتل الشباب والأطفال والنساء والشيوخ بواسطة السيارات المفخخة ورجالات الشرطة والجيش وتدمير الدوائر الحكومية والمستشفيات والمدارس ومحطات توليد الطاقة الكهربائية وغيرها من المؤسسات الانتاجية والثقافية، ناهيك عن التهجير القسري الظالم، هذا كله ليس لأجل توحيد الصف لعباد الله، وإنما لأجل التنازع على وجهات نظر فقهية التي تبث سموم الطائفية والشقاق المخالفة إلى القرآن الكريم والسنة المحمدية، بغية اتخاذها غطاء سياسيا لمآرب خبيثة. نسأل الله – جل وعلا – أن يخلص الشعب العراقي من هذه الفتنة الفتاكة إلى رخاء ورفاهية اقتصادية وآنية وقوة تعم العراقيين كافة من دون استثناء. انه نعم المولی و نعم النصير.
الخاتمة حاولت في هذا الموجز أن أعالج ضربا خطيرا من التحديات التي تواجهها الأمة الإسلامية، ألا وهي الطائفية، سرطان الأمة وقاتل أبنائها. فبدأت المقالة بتبيين مفهوم الطائفية لغة واصطلاحا، ثم تناولت نشأة الطائفية وانتشارها تناولا تاريخيا منهجيا وتحدثت عن هذه الظاهرة كأهم تحديات الأمة الإسلامية، مشيرة إلى نموذج منها على أرض الواقع.
ومما يجدر بالذكر هو أننا دائما نحمّل المسؤولية للأعداء وهذا فيه جزء كبير من الصحة، لأنهم يهاجموننا في حملات مسعورة ويثيرون الفتن؛ لكن كلها لم تنته إلى شيء والذي انتهى إلى شيء هو ما نفعله نحن. وعلى الجميع ألا يألوا جهدا في سبيل مواجهة هذه التحديات وإعادة جبروت العالم الإسلامي. ثم هناك عامل رئيس يساعد في بث الطائفية وهو إهمال بعض القيادات الدينية، فليس هناك مبادرة عملية من قبل القيادات الدينية في الجانبين السني والشيعي لوضع خطة شاملة واعتماد إستراتيجية متكاملة لإزالة الطائفية لتحقيق الوحدة والتقريب، وغالباً ما يُكتفى بالشعارات والخطابات والطروحات النظرية العامة ولانرى صدى مؤثرا على أرض الواقع.
إن وضع الإستراتيجية يستلزم شيئاً من النقد الذاتي، وتجاوز الممارسات التي تسبب الإثارة من قبل كل طرف للآخر، كما تستلزم توطين النفس على قبول وجود الرأي الآخر، والاعتراف بحقه في التعبير عن قناعاته وتجسيد حضوره. ولقد وضعت المنظمة الإسلامية للتربية العلوم الثقافة (الإيسيسكو) خطة جيدة على هذا الصعيد، لكن التزام الحكومات بها بعيد المنال، ولا تزال حبراً على ورق. وإن كانت تمثل خطوة متقدمة في هذه المسيرة.
وفي ختام بحثي هذا وتحقيقا للوحدة الاسلامية والحيلولة دون الطائفية ونعراتها، أقدم المقترحات التالية: - على جميع طوائف الأمة القيام بتوحيد جهودها ورصّ صفوفها في مواجهة عدوها الذي يسعى إلى القضاء عليها، كما عليها التعاون لنبذ أسباب الفرقة والاختلاف، فالعدو يستهدف الجميع ولا يستثني أحداً.
- من الواجب أن نسعى لإطفاء نار الفتنة الطائفية في مهدها، وأن نحافظ على وحدة الأمة حكاماً ومحكومين في جميع البقاع وأن نكون على قدر الأحداث الجارية في المنطقة فقها ووعياً، وأن نسعى لحل الخلافات بين طوائف الأمة بجميع الوسائل المشروعة.
- على جميع وسائل الإعلام (المرئية والمسموعة والمقروءة) أن تبذل قصارى جهدها لتنوير الأمة وتحذيرها من مثل هذه الفتن التي تدمر كيان الأمة من الداخل.
- أن تعمل المجامع والمؤسسات الإسلامية على بث ثقافة التوحيد والتقريب بين المذاهب الإسلامية، كالنهج الذي يسلكه المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية في طهران ودار التقريب بالقاهرة والمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (الإيسيسكو) بالرباط.
- على الذين يملكون القرار، اتخاذ قرارات سياسية تدفع المجامع والمؤسسات الإسلامية وكافة الجهات المعنية للقيام بترسيخ مباديء الوحدة الإسلامية.