الثورة التونسية أثبتت فشل الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا إلى الآن في تثبيت المؤسسات المدنية أو النخب التي اصطنعتها لنفسها خلال هذه السنوات على قمة الهرم السياسي.
شارک :
كشفت أحداث تونس حقيقة الموقف الأمريكي والفرنسي والغرب عموما من الإصلاح السياسي في العالم العربي، فالإصلاح الذي روجت له الولايات المتحدة الأمريكية لا يعدو كونه استراتيجية أمريكية لاحتواء الشعوب العربية التي تسعى لتصفية الاستعمار والهيمنة الغربية على مقدراتها وصياغة مستقبلها.
فكما هو واضح للمتابعين والمراقبين للثورة الشعبية التونسية، و للجماهير العربية المتلهفة لمتابعة الأحداث في تونس فأن الولايات المتحدة وفرنسا تقاتلان بضراوة للحفاظ على نفوذهما في تونس وتبذلان جهودا أصبحت شبه مكشوفة، خاصة بعد اكتشاف الاتصالات الهاتفية بين بن علي ومحمد الغنوشي، فأمريكا لا تريد للشعوب العربية أن تقرر مصيرها، وأن تحكم نفسها، وأن تصنع سياساتها ومستقبلها؛ فهي تخشى على نفوذها المتآكل أصلا في المنطقة العربية. فمنذ عهد بوش الابن الذي طرح مشروعه لنشر الديمقراطية من خلال منتدى المستقبل الذي عقد على مدى سبع سنوات في الدوحة ومراكش والبحرين، وهي تبحث عن أفضل السبل للحفاظ على هذا النفوذ من خلال التكيف مع التطور الاجتماعي والاقتصادي الحاصل في العالم العربي.
لقد اعطى فوز حركة حماس مؤشرا خطيرا على إمكانية فشل المشروع الامريكي لنشر الديمقراطية وفق المعايير الامريكية والذي يفترض تبني القوى المنتخبة للقيم والمصالح الامريكية في المنطقة؛ ففوز حماس كان يعني ان أمريكا لن تضمن وصول قوى موالية لها من خلال العملية الديمقراطية؛ ما دفع الإدارة الأمريكية إلى العدول عن هذا المشروع والقبول برؤية النظام التونسي وغيره من الدول التي كانت تدعو إلى توجيه الدعم إلى المؤسسات المجتمع المدني التي تخضع لإشراف الدولة وهيمنتها والمرخصة من قبلها، وقد قبلت الولايات المتحدة هذه التوجهات الجديدة.
غير أن الثورة التونسية أثبتت فشل هذه الإستراتيجية بالكامل، ولم تنجح الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا إلى الآن في تثبيت المؤسسات المدنية أو النخب التي اصطنعتها لنفسها خلال هذه السنوات على قمة الهرم السياسي، بل إن إصرارها على التمسك بحكومة الغنوشي أدى إلى انكشاف هذه المؤسسات الممولة من قبلها على مدى السنوات العشر الماضية والتي لم يقبل بها الشعب التونسي بديلا عن إرادته الحرة حتى الآن، رغم المحاولات الأمريكية المحمومة لتثبيت هذه النخبة المصطنعة بقوة التمويل الخارجي.
إن إصرار أمريكا على تثبيت أعوانها سيؤدي حتما إلى تأزيم الموقف في تونس، وقد يتكرر الخطأ الذي ارتكبته أمريكا في إيران عقب الشاه، حيث حاولت الدفاع عن نفوذها إلى درجة لجوئها إلى القوة المسلحة وإلى العقوبات، بل إلى إشعال حروب إقليمية.
إن تكرار الخطأ في تونس قد يدفع باتجاه تثوير الشعوب المغاربية بالكامل، والشعوب المغاربية المتعاطفة مع تونس قد تنتفض على الدور الأمريكي الآخذ بالانكشاف في تونس؛ لتدفع أمريكا ثمنا أكبر من الذي كان من الممكن أن تدفعه، وهو ما يمكن تسميته بالبلاهة السياسية النابعة من العجرفة والغرور؛ ما سيحول ثورة الشعب من الثورة على الاستبداد إلى الثورة على الهيمنة الغربية.