التقريب بين المذاهب الإسلامية؛ بين النظرية والتطبيق
المراد هو التقريب بين القادة للمذاهب وبالتالي بين القادة وأتباعهم، وذلك من خلال رسم الخطوط العريضة المشتركة التي تجمع المذاهب الإسلامية في مجالي العقيدة والشريعة، وإنّه لو كان هناك خلاف فيهما فهو بالنسبة إلى الأُمور المتفق عليها قليل جداً
لاشك أن الأمة الإسلامية منذ سنين متكاثرة تواجه تحديات كثيرة ولاسيما بعد هيمنة الاستعمارعلى عالمنا الإسلامي وتدخّل الأعداء في شؤونه، مما أدى إلى نبذ الخلافات بين أبناء الأمة وتفاقم الأزمات فيما بينهم.
ومما لاريب فيه أن الإنسان أخو الإنسان، ومهما كان الاختلاف بينهم، فهم من طبقة واحدة؛ والإسلام في مبادئه ساوى بين كل الناس، بين الغني والفقير، والمرأة والرجل والوالي والعامل، فالكل متساوون أمام الله تبارك وتعالى وأكرمهم عند الله أتقاهم؛ قال الله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا أن أكرمكم عند الله أتقاكم). إذن، بُني الاسلام على أساس الوحدة وتعزيز الروابط الاجتماعية، فجاء الإسلام بدعوات مخلصة، كمساواة، وعدالة، ومحبة، وألفة، وتعاون، وأخوة، ورأفة، ورحمة، و...الخ. فالشريعة الإسلامية لا تدعو إلى التفرقة والعصبية والخلاف، وإنما تدعو إلى الوحدة الشاملة بين المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
فتهدف هذه الدراسة إلى معالجة الأساليب العملية لتحقيق التقريب بين المذاهب الإسلامية؛ ذلك لأن معظم المحاولات التي جرت في هذا المجال ظل حبرا على الورق ولانرى تحقيق هذا الهدف المنشود على أرض الواقع بقدر ما نسعى إليه.
تبدأ المقالة - بعد المقدمة- بتعريف مفهوم التقريب بين المذاهب وضرورته. ثم تشير إلى بعض الشروط التحضيرية لتحقيق عملية التقريب ومن ثَمّ تعالج بعض المقترحات والأساليب العملية لتحقيق التقريب بين المذاهب الإسلامية، وتختتم بتقديم بعض المقترحات. مفهوم التقريب بين المذاهب الإسلامية التقريب لغة كما ورد في لسان العرب (قرب بالضم: الشيء قربانا: دنا منه، وقارب: اقتصد وترك المبالغة، وتقارب: ضد تباعد، والقرب نقيض البعد. كما أن المذهب لغة يأتي بمعنى المعتقد والطريقة والأصل، ومصطلح مذهب مشتق من لفظ: ذهب ذهابا وذهوبا ومذهبا في المسألة إلى كذا، أي رأى فيها ذلك الرأي، وتمذهب بالمذهب بمعنى اتبعه. وأما التقريب بين المذاهب الإسلامية كمصطلح فتتقارب أغلب تعريفاته التي اطلعنا عليها والمنسوبة لبعض الأعلام المعاصرين الداعين إلى التقريب بين المذاهب، إذ يقول د.يوسف القرضاوي "ليس المقصود من فكرة التقريب رفع الخلاف، الخلاف لا بد منه". ولا يبتعد آية الله محمد علي التسخيري في تحديده لمفهوم التقريب عما ذهب إليه الشيخ القرضاوي حين يقول "فكرة التقريب بين المذاهب لا تعني أبدا إلغاءها، بل يبحث الجميع عن المساحة المشتركة وتوسيعها عبر التفاهم وبالتالي تطبيق ما اتفقوا عليه."
ويوضح المفتي العام لسلطنة عمان الشيخ أحمد بن محمد الخليلي -متحدثا عن مفهوم التقريب بين المذاهب- طريقة التعامل مع ما يجمع المذاهب قائلا "يجب علينا أن نفكر فيما يجمع بين هذه الأمة، فنحن نرى قواسم مشتركة تجمع ما بين هذه الأمة جميعا، منها وحدة المصدر. فإن هذه الأمة جميعا تؤمن بكتاب الله أنه هو المصدر الأول لفكرها ولفقهها ولمنهجها في حياتها، وتؤمن أيضا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة الصحيحة". وكذلك قامت المنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم (الإيسيسكو) بتعريف مصطلح التقريب بين المذاهب الإسلامية بأنه توحيد الأمة حول الأصول الكلية والثوابت الراسخة المستمدة من القرآن الكريم وتعاليم السنة النبوية، وهو ما أكدت عليه أدبيات المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية التي نصت على أن التقريب بين المذاهب الإسلامية لا يعني انصهار كل المذاهب أو ذوبانها في مذهب واحد ، بل هو خطوة لجمع المسلمين وإشاعة روح التفاهم والتعارف فيما بينهم والتقائهم.
إذن، ليس المراد من التقريب بين المذاهب والطوائف الإسلامية، هو ذوب طائفة في أُخرى، أو جعل جميع المذاهب مذهباً واحداً حتى لا يبقى من المذاهب المختلفة عين ولا أثر ويُصبح المسلمون على مذهب واحد، فانّ ذلك أمر عسير جداً إن لم يكن محالاً عادة، ولايدعو إليه علماء هذه النظرية. وإنّما المراد هو التقريب بين القادة للمذاهب وبالتالي بين القادة وأتباعهم، وذلك من خلال رسم الخطوط العريضة المشتركة التي تجمع المذاهب الإسلامية في مجالي العقيدة والشريعة، وإنّه لو كان هناك خلاف فيهما فهو بالنسبة إلى الأُمور المتفق عليها قليل جداً. فاللّه سبحانه ربّنا، والقرآن كتابنا، ومحمد نبيّنا، والكعبة قبلتنا، وسنّة الرسول قدوتنا، وأئمّة أهل البيت خيارنا، إلى غير ذلك من الخطوط التي لا يحيد عنها أيّ مسلم قيدَ شعرة، ومَن أنكر أحدها خرج عن ربقة الإسلام وهذا هو الذي يوحّد المسلمين ويجمعهم تحت راية واحدة، ويجعل شعار الجميع. ووفق هذا المنطلق، يسعى التقريب لتصحيح العلاقة بين أطراف المجتمع الإسلامي، وحمايته من النزاع والشقاق، وإيقاف الإساءة إلى الرموز والمقدسات، بين المذاهب العقدية، واعتماد لغة الحوار العلمي. وخلاصة القول إن التقريب بين المذاهب الإسلامية يعني التعاون فيما اتفقنا عليه وإعذار بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه.
ضرورة التقريب بين المذاهب لاريب أن أعداء الأمة الإسلامية يتربصون ويبذلون قصارى جهدهم لتمزيق وحدة الأمة، وتفرقة المسلمين، وزرع بذور النزاعات والخلافات والعداوات بينهم، لتذهب ريحهم، ويسهل كسر شوكتهم، وتشتتهم وإخضاعهم، ولذا فقد آن الأوان لأن تأخذ الأمة حذرها، وتتوجَّه إلى الاجتماع والائتلاف، والتوحد والاتفاق. وفي هذه الحالة أن الأمة الإسلامية أحوج ما تكون إلى التوحد والاتفاق. والتقريب يعدّ أحد مرتكزات الاستقرار الشامل، الذي تشتدّ حاجة المسلمين اليوم إليه؛ لتحقيق حياة إسلامية أرغد، وعيش إيماني أهنأ، في جوّ من التكامل والتعاضد والتناصر؛ مما سيتيح للأمة الإسلامية أن تجد لها مكانًا في الحياة المعاصرة، وتتمكن بتقاربها وتكاملها من الحفاظ على ذاتيتها وهويتها، وتستطيع أن تقي نفسها ومقدراتها ومستقبلها من أي هيمنة، لاسيما وأن لديها من المقومات الحضارية والتاريخية والتشريعية والإنسانية ما ليس لدى غيرها من الأمم.
وأمام ما يبرز أمام العالم الإسلامي من تحديات جسام، تأتي ضرورة مواصلة الجهد والعمل من أجل التقريب لترسيخ مبدأ التآلف والتقارب، ونبذ الاختلاف بأسهل السبل وأيسر الأساليب؛ ليصبحوا كما أراد الله سبحانه وتعالى:(خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) إخوة في الله، متحابين غير متفرقين ولا متنازعين، ينعمون بوحدة التشريع، ويرفلون في حلل الدين القويم. فيشكّل التقريب مقوّماً أساسياً من مقومات بناء مستقبل هذه الأمة الاسلامية بكل مكوناتها وطوائفها وقومياتها ومذاهبها وألوانها، فلا يمكن لهذه الأمة أن تنهض وهي خالية الوفاض من قيم الوحدة والعمل المشترك بين أبنائها. ذلك لأن "الأصول الثابتة والكليات القطعية التي بها يكون الإسلام وبغيرها ينتفي، هي: الإيمان بالله وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشرّه، أي التوحيد، والنبوة، والمعاد. فهذا ما جاء به القرآن الكريم وبلغه رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام. وهذه هي الجوامع المانعة للفرقة القاطعة لدابرها. وحول هذه الأصول تجتمع الأمة، وبها يتم الاعتصام بحبل الله، أي بالقرآن الكريم كتاب الله الخالد الموحى به إلى رسوله ونبيه محمد بن عبدالله (صلّى الله عليه وسلّم)، والسنّة الصحيحة قولاً وفعلاً وتقريراً. والاختلاف في هذه المفاهيم الرئيسَة، هو مبعث للفرقة ومصدر للاحتقان في العلاقة بين السنّة والشيعة وسبب للخلاف بين الطائفتين". فهنا تكمن ضرورة التقريب كمشروع لنصرة القرآن الكريم العظيم والنبي الاكرم محمد (ص)؛ وفلسفة التقريب ليست إلا تكريما للانسان وتعزيزا لفرص الوحدة الاسلامية.
شروط تحضيرية قبل أن نخوض في الأساليب والمقترحات العملية لتحقيق التقريب بين المذاهب، ينبغي لنا أن نشير إلى بعض الشروط التحضيرية لتطبيق هذه المهمة، إذ تعتبر هذه الشروط أرضية لابدّ منها في مجال تحقيق الوحدة الإسلامية؛ ومن هذه الشروط: أ. الاعتراف بالخلافات الموجودة بين المذاهب الإسلامية؛ فقبل كل شيء علينا أن نقر بأن هناك خلافات –وإن كانت بسيطة- بين المسلمين ويجب حلّّها؛ ذلك لأننا قبل أن نشخّص الداء لانتمكن من إيجاد دواء له ومعالجته. ب. القناعة بضرورة التقريب بين المذاهب الإسلامية ومن ثَمّ اتخاذ الخطوات الجادة والفعالة لتحقيق الوحدة والأخوة بين أبناء الأمة. ت. حسن النية، وسلامة الطوية، فعليهما تبنى المقاصد، وتتحقق الأهداف، وبهما يتم تشخيص سبل التقريب بين مختلف الفرق والمذاهب الإسلامية. ث. تجنب التكفير والتفسيق والاتهام بالابتداع؛ و"نحن نعتبر مسألة التكفير من المصائب التي ابتلي بها تاريخنا، فرغم النصوص الشريفة التي تحدد المسلم من جهة وتمنع من التكفير للمسلم من جهة أخرى، لحظنا سريان هذه الحالة التي حجرت على العقل أي إبداع أو مخالفة، حتى إننا شاهدنا من يؤلف كتابًا، ويرى أن مخالفة حرف واحد فيه تؤدي إلى الكفر وهذا أمر غريب! ومن هنا فنحن ندعو إلى التحول بالمسألة من "الإيمان والكفر" إلى مرحلة "الصواب والخطأ"، متحلين في ذلك بروح القرآن التي تدعو إلى الموضوعية، حتى في النقاش مع الكفار الحقيقيين، حينما يُخاطَب الرسول أن يقول لهم: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ). ج. قبول الآخر واحترام رأيه وإن كان رأيه يخالف رأينا وذلك من منطلق الإنسانية الذي صرّح به علماؤنا الأجلاء كالإمام الشافعي عندما قال: "رأيي هذا صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب". ح. الصراحة والشجاعة في طرح القضايا ذلك لأن "حل الخلاف بين السنّة والشيعة يتطلب الصراحة التامة والشجاعة الكاملة من العلماء الأعلام في الطائفتين، في طرح القضايا التي يجب أن ينظر فيها من زاوية الحرص على المصالح العليا للأمة الإسلامية، أولاً وقبل كل شيء.
التقريب بين النظرية والتطبيق منذ أن بدأت حركة التقريب بين المذاهب الإسلامية قامت مجموعة من علماء الأمة ومفكريها برصّ صفوف الأمة وذلك من خلال عقد ندوات ومؤتمرات وإصدار الكتب وغيرها من الجهود الحثيثة والمخلصة للمّ شمل الأمة، وإن تحقق بعض هذه الجهود والمحاولات إلا أن معظمها باتت حبرا على الورق ولم نرَ تحققا واضحا لهذه المساعي الحميدة على أرض الواقع. واليوم وفي ظل مؤامرات أعداء الإسلام ودسائسهم نحن بحاجة ماسة إلى أساليب عملية لتحقيق مهمة التقريب بين المذاهب الإسلامية ألا وهي توحيد الأمة الإسلامية؛ ومن هذه الأساليب نستطيع أن نشير إلى ما يلي:
تعميم منطق الحوار وقوعدته بين المسلمين يعدّ الحوار المنطقي بين جميع أتباع المذاهب الإسلامية شرطًا ضروريًا، لما له من أهمية قصوى، بل هو شرط أساس لا يمكن تجاهله في أي مرحلة من مراحل تحقيق التقريب. واحترام الآخر في الحوار وعدم الإساءة للآخر المتحاور يعتبر ركيزة أساسية ومهمة في أي حوار؛ ذلك أننا نعلم أن الحوار هو المنطق الإنساني السليم في نقل الفكر إلى الآخرين، وأن القرآن الكريم طرح نظرية رائعة للحوار المطلوب، تناولت مقدمات الحوار وظروفه وأهدافه ولغته بشكل لا مثيل له، وكان مما تناوله مسألة الاستماع للآراء واتباع أحسنها، ومسألة عدم التجريح، حتى إن الآية الشريفة تقول: (قُلْ لا تُسْأَلونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) ، في مجال توجيه حوار الرسول مع غير المؤمنين بالإسلام، وإبعاده عن مسألة إثارة حزازات الماضي والاتهامات المتبادلة فيه، والتوجه لمنطقية الحوار نفسه، وهي مع أن السياق اللفظي كان يتناسب معه، فكيف بنا ونحن نتحاور كمسلمين متفقين على المبادئ الثابتة في الإسلام كالتوحيد والنبوة والمعاد؟!
وإذا كان ديننا الإسلامي في مفهومه التشريعي قد أوجب الحوارالحسن، والجدل المقنع مع الكفار والمشركين -كما مرّ بنا آنفا- أو في الآية الشريفة (وجادلهم بالتي هي أحسن) ، فليتمّ الحوار الحسن في كل القضايا الحياتية، وبالذات منها ما يتعلق بأمور الدين، وإنما بألطف الكلام وأرهف العبارات، وأقوى الحجة وأصدق الدليل، وبأكثرها حصافة وموضوعية، تعزيزاً للروابط الإسلامية الجامعة، وتمتيناً لوشائج الوحدة والقربى، وتعميقاً للصلات الأخوية بين أبناء الأمة الإسلامية الواحدة. إذن، يجب أن يكون القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة - باعتبار أنهما أصل مصادر التشريع الإسلامي بالإجماع – المرجع الأساس في كل تَحَاوُرٍ بين المسلمين، وأن يبنى حوار التقريب على التسامح، ونبذ كل أشكال العصبية، والانتماءات المذهبية الضيقة، ذلك وفقا لتعاليم الإسلام الصحيحة.
الحج، مؤتمر عملي للتقريب بين المذاهب إن الحج مشهد جليل مهيب من مشاهد الأمة، إذ يجتمع فيه المسلمون من مختلف بقاع الأرض، بكل ألوانهم وأشكالهم وأعراقهم وانتماءاتهم في صورة تحكي واقع الأمة الإسلامية. إذن، أن الحج فرصة ذهبية لرصّ صفوف الأمة، وعلى العلماء المخلصين والمهتمين بقضية التقريب بين المذاهب والوحدة الإسلامية أن يستغلوا موسم الحج في تعزيز الوحدة الإسلامية والتقريب بين مختلف المذاهب، وترجمة فلسفته ألا وهي انسجام الأمة ووحدتها. فآن الأوان لأن تجعل الأمة من هذا الموسم فرصة لاجتماعها ووحدتها بعد أن فرقتها الأهواء؛ لأن مؤتمر الحج يغرس في النفوس حياة تراعى فيها حرمات الله، ويجد الناس فيه دوحة أمن واطمئنان، والأمة الإسلامية في حاجة وهي تكتوي بلهيب الصراعات الدموية، لأخذ الموعظة والحكمة من فلسفة الحج.
صحيح أن هناك مساعي مشكورة من قبل بعض الدول الإسلامية وكذلك العلماء و المفكرين المعنيين بقضايا الوحدة الإسلامية في استغال هذا الموسم على نحو ما فعله الشهيد حسن البناء، ولكن حجم هذه المساعي لاتتلائم مع حاجة الأمة إلى الوحدة والتقريب، فيجب أن تُبذل جهود أكبر في هذا المجال.
التركيز على المساجد ودور العبادة مع كل الجهود التي تُبذل في مجال التقريب بين المذاهب والوحدة الإسلامية ولكننا –للأسف- قلما نجد تجلّي هذه الجهود في المساجد ودور العبادة، بينما تُعدّ المساجد من أهم الأماكن التي يمكن أن نبث فيها ثقافة التقريب. فعلى المعنيين بقضية التقريب أن يركزوا على المساجد ودور العبادة كمجال واسع لتنفيذ مشروع التقريب؛ ويتم ذلك عبر أئمة الفكر الإسلامي ووعاظه وخطبائه المقتدرين بثقافة التقريب، وتمكينهم من الأداء العلمي المتوازن، المستند إلى الدليل الصحيح القاطع، في فضاء إسلامي يسمح لهم بمضاعفة الجهد، وبذل الوسع في ميادين التقريب بين المذاهب الإسلامية، بروح إسلامية عالية متجردة سمحة؛ لأن لأئمة المساجد كلمتهم ولها وزنها وتأثيرها لدى المستمع المسلم. كما هو من الضروري أن تُزوّد مكتبات المساجد بالمطبوعات والكتب والمنشورات الإسلامية التي تتضمن مسائل التقريب، والدعوة إليها بقصد الإسهام الفاعل في إزالة العوالق والشوائب التي التصقت بتاريخ المذاهب الإسلامية، وكل ذلك يساهم في عملية تحقيق التقريب بين المذاهب الإسلامية.
الاهتمام بتربية العلماء والوعاظ لا شك أن العبء الأكبر من عملية التقريب بين المذاهب يقع على عاتق العلماء والمفكرين في مجال التقريب؛ وذلك لأنهم -من جهة- ورثة الأنبياء وحملة الدعوة وبناة الجيل، وهم -من جهة أخرى- أعلم بالأسس التي يعتمدها التقريب، وأكثر أثرًا في توحيد الصفوف وتحقيق خصائص الأمة. فلذلك على مدراء الحوزوات والمعاهد الدينية أن يركزوا على تربية جيل من الوعاظ والعلماء المؤمنين بقضية التقريب والوحدة الإسلامية بغية إرشاد عامة الناس إلى الوحدة وهو سبيل الخير وذلك عن طريق المنابر ومجالس الوعظ والإرشاد. فالمطلوب من علماء الأمة العمل على ترسيخ ونشر ثقافة الوحدة الإسلامية بين أبناء الأمة والابتعاد عن كل ما يؤدي إلى الفرقة والنتاحر من تصريحات وفتاوى.
إيجاد المؤسسات الوحدوية والتقريبية إن المؤسسات الوحدوية والتقريبية بما فيها من الإمكانيات المادية والمعنوية تمثل دورا مهما في عملية تحقيق التقريب بين المذاهب الإسلامية. هناك منظمات ومجامع ومؤسسات قليلة في العالم الإسلامي تعمل في مجال التقريب بين المذاهب كـ "المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة" (إيسيسكو) و"المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية" ولكن هذا العدد القليل من المنظمات والمجامع لايكفي لتلبية حاجة الأمة إلى توجيه النشاطات الوحدوية والتقريبية، فلذلك نحن بحاجة إلى إنشاء مزيد من مثل هذه المؤسسات، كما من الضروري أن تسهم في هذا المشروع الوزارات والمؤسسات الحكومية التي لها صلة بميادين الفكر والثقافة والإعلام وشؤون الدين الإسلامي، كوزارات الأوقاف والشؤون الإسلامية، والثقافة، والإعلام، بكل مؤسساتها ووسائلها، ووزارات التربية والتعليم، والتعليم العالي، إضافة إلى المجامع العلمية الإسلامية، وغيرها من الأجهزة والمعاهد العاملة في ميادين التوجيه الديني والثقافي. فعلى هذا الصعيد، يجب أن تشارك الحكومات والهيئات والمنظمات الإسلامية والفقهاء المتخصصون في تشجيع إيجاد المؤسسات التقريبية من قبيل: أقسام الدراسات التقريبية المقارنة، والنوادي الاجتماعية المشترك، والمعسكرات التقريبية في مختلف الشؤون، وإيجاد جماعات التقريب في شتى أماكن وجود المسلمين.
الاهتمام بالدراسات والمنشورات التقريبية إن الاهتمام بالدراسات والمنشورات التقريبية يُعدّ من الأساليب العملية المهمة في تحقيق التقريب، لما له من آثار إيجابية طيبة ومفيدة، توثق وبصفة دائمة، الحقيقة التاريخية لأبعاد الاختلافات الفكرية والفقهية، وبواعثها ومبرراتها، وترسخ الحقائق الناصعة وتبين الصورة الصحيحة عن الإسلام والمسلمين. فتنشر يوميا آلاف من الكتب والمجلات في مختلف المجالات وفي شتى أنحاء العالم ولكنا إذا أمعنا النظر فيما يصدر حول قضية التقريب بين المذاهب والوحدة الإسلامية نجد أن عدد الكتب التقريبية والوحدوية – بالقياس مع سائر العلوم والتخصصات- شيء لايُذكر، هذا وإن تبادل المعارف والكتب والمطبوعات والنشرات التعريفية المتضمنة مواضيع تستهدف التقريب، والدراسات البحثية العلمية التي تهتم بالتعريف بفقهاء الإسلام وأئمة المذاهب الإسلامية ومجتهديها، مع التركيز على توسيع قاعدة النشر والتأليف، والاهتمام بالمذاهب الفقهية وتبيين مصادرها التي اعتمدت عليها في كل مسائلها الاجتهادية لمناقشتها، والتحاور حولها، بما يضمن إغناءها والوصول بها إلى غاياتها في الوحدة القلبية المطلوبة إسلامياً، وسواء تم ذلك عن طريق تبادل المطبوعات والنشرات والمؤلفات، أو استعمال وسائل التواصل الحديثة، كالإنترنت ونحوها، من وسائل التواصل الفاعلة و القادرة على تبادل الحوار المباشر، لتتعمق معرفة الآخرين بمكانة هذا المذهب أو ذاك، والتعرف على مواقفه من خلال عرض اجتهادات فقهائه وتصفح آرائهم المبنية على مصادر التشريع الإسلامي، وبذلك تنمو المعارف وتتفتح الآفاق العلمية، وتتضح صور ما كان خافياً عن هذا المذهب أو ذاك.
كما أن تشجيع تأليف الكتب المشتركة بين المذاهب ودعمه، في علوم التفسير والرواية، والفقه المقارن، وإعادة كتابة التاريخ الإسلامي، وتصفيته مما علق به من شوائب مختلقة عن الاختلافات المذهبية، والعمل على إزالة أثرها، بقصد إظهار حقائق الإسلام الصحيحة الناصعة، وتعرية أباطيل خصومه، يعتبر من ضروريات المرحلة الراهنة في تاريخ الأمة الإسلامية ومسيرها الوحدوي. وكذلك تمويل مشاريع التأليف والتحقيق والنشر في مجال التقريب يدفع عجلة التقريب والوحدة نحو الأمام كما تقوم به الآن المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (الإيسيسكو) وكذلك المجمع العلمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية في إيران. وما ينقصنا حاليا في مجال الدراسات المنشورات التقريبية هو عدم وجود مكتبة متخصصة بالتقريب بين المذاهب والوحدة في الدول الإسلامية بحيث تجمع جميع ما صدر في مجال التقريب والوحدة بالإضافة إلى مصادر الفقه لجميع المذاهب وكل ما يتعلق بالجهود التي ترمي إلى رصّ صفوف الأمة بغية توعية الجماهير المسلمة.
الفضائيات المشتركة في ظل عصر تتلاشى فيه الحدود بين الدول والثقافات، وفي ظل ثورة علمية تكنولوجية واسعة، تلعب وسائل الإعلام دورًا كبيرًا في إيصال الأفكار والآراء، فمن الضروري استخدام وسائل الإعلام في توضيح المعارف الدينية وضروريات الأمة الإسلامية؛ لذلك يجب أن تتبنى وسائل الإعلام المختلفة في العالم الإسلامي سياسة واضحة تعتمد على تحقيق الوحدة ونبذ الفرقة والخلاف؛ بحيث تجتنب عن طرح الخلافات المذهبية على عامة الناس أو في وسائل الاعلام. أما الذي يهم العالم الإسلامي في ظل المحاولات الخبيثة والماكرة التي تتبعها بعض الفضائيات في نشر الأفكار المضللة وبث الفرقة وإشعال الفتن بين أبناء الأمة الإسلامية، هو وجود الفضائيات المشتركة بين جميع المذاهب الإسلامية. يشهد العالم الإسلامي يوميا تأسيس فضائيات تتطرق إلى قضايا إسلامية ولكن –مع الأسف- كثيرا من هذه الفضائيات تخدم أهداف أعداء الأمة؛ لأنها تبث بذور الخلاف بين أبناء الأمة عن طريق تكفير الآخر، ازدراء أتباع سائر المذاهب الإسلامية والإساء إلى رموز بعض المذاهب. إذن، الحاجة إلى وجود فضائيات مشتركة بين جميع المذاهب الإسلامية تبدو ماسة؛ فيجب أن تهتم الجهات الإسلامية المعنية كمنظمة المؤتمر الإسلامي والمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة وغيرها من المنظمات الإسلامية بتأسيس فضائيات مشتركة يشرف عليها علماء وفقهاء معتدلون ومعتمدون لدى منظمة المؤتمر الإسلامي. الاهتمام بالشباب
الشباب يشكِّلون في الأمة الإسلامية قرابة 6۰% وهذا رقم قياسي مقارنة بمجتمعات الغرب، وفي العصر الذي صوب أعداء الأمة سهام هجمتهم الشرسة نحو الشباب المسلمين بغية الغزو الثقافي، تنمو يوميا عديد من المواقع الالكترونية التي تستقطب الشباب المسلمين؛ ذلك لأن الجيل الحالي –بخلاف الجيل السابق- لاينتمي نحو الصحف والمنشورات الورقية فنراهم يقضون ساعات طويلة للتجوال في الشبكة العنكبوتية. فالمواقع الالكترونية تعتبر من أهم الميادين التي يمكن أن ننفذ فيها مشروع التقريب خاصة بين الأوساط الشبابية.
هذا وعلى الوالدين أن يجتنبوا من التطرق إلى القضايا الخلافية بين المسلمين ولاسيما تكفير الآخر؛ لأننا لانختار الديانة أو المذهب وإنما نرثها ونتعلمها من الوالدين، فإذا أكد الوالدان –منذ نعومة أظفار طفلهم- على أن المسلمين يجب أن يتحدوا ويجتنبوا الخلافات وأنه حرام على المسلم تكفير أخيه المسلم و...، فيتربى الطفل في فضاء رحب مفعم بالمحبة للآخر المسلم سواء أكان سنيا أو شيعيا. ونظرا لأهمية الجيل الشاب وأهمية هذه الفترة من العمر في تكوين ثقافة الإنسان، عقد الدورات المرتبطة بقضية التقريب والوحدة في المدارس والجامعات والمعاهد العلمية وفي الأوساط الشبابية، يبدو أمرا في غاية الضرورة.
وبعد: فحاولت في هذا الموجز أن أعالج بعض الأساليب العملية لتحقيق التقريب بين المذاهب الإسلامية. ومما يجدر بالذكر هو أننا دائما نحمّل المسؤولية للأعداء وهذا فيه جزء كبير من الصحة، لأنهم يهاجموننا في حملات مسعورة ويثيرون الفتن؛ لكن كلها لم تنته إلى شيء والذي انتهى إلى شيء هو ما نفعله نحن. وعلى الجميع ألا يألوا جهدا في سبيل التقريب بين المذاهب والوحدة الإسلامية بغية إعادة جبروت العالم الإسلامي. ثم هناك عامل رئيس يساعد في عرقلة تحقيق التقريب وهو إهمال بعض القيادات الدينية، فليس هناك مبادرة عملية من قبل القيادات الدينية في الجانبين السني والشيعي لوضع خطة شاملة واعتماد إستراتيجية متكاملة لإزالة الخلافات لتحقيق الوحدة والتقريب، وغالباً ما يُكتفى بالشعارات والخطابات والطروحات النظرية العامة ولانرى صدى مؤثرا على أرض الواقع. إن وضع الإستراتيجية يستلزم شيئاً من النقد الذاتي، وتجاوز الممارسات التي تسبب الإثارة من قبل كل طرف للآخر، كما تستلزم توطين النفس على قبول وجود الرأي الآخر، والاعتراف بحقه في التعبير عن قناعاته وتجسيد حضوره.
ولقد وضعت المنظمة الإسلامية للتربية العلوم الثقافة (الإيسيسكو) خطة جيدة على هذا الصعيد، لكن التزام الحكومات بها بعيد المنال، ولا تزال حبراً على ورق. وإن كانت تمثل خطوة متقدمة في هذه المسيرة. وفي ختام بحثي هذا وتحقيقا للتقريب بين المذاهب الإسلامية، ألخص الأفكار الواردة في الدراسة وأقدم المقترحات التالية: - على جميع طوائف الأمة القيام بتوحيد جهودها ورصّ صفوفها في مواجهة عدوها الذي يسعى إلى القضاء عليها، كما عليها التعاون لنبذ أسباب الفرقة والاختلاف، فالعدو يستهدف الجميع ولا يستثني أحداً. - على جميع وسائل الإعلام (المرئية والمسموعة والمقروءة) أن تبذل قصارى جهدها لتنوير الأمة وتحذيرها من الخلافات التي تدمر كيان الأمة من الداخل. - أن تعمل المجامع والمؤسسات الإسلامية على بث ثقافة التوحيد والتقريب بين المذاهب الإسلامية، كالنهج الذي يسلكه المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية في طهران ودار التقريب بالقاهرة والمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (الإيسيسكو) بالرباط. - يفترض إعادة تقويم حركات التثقيف والتوعية التي يقوم بها الدعاة والمثقفون التقريبيون . - على الحكومات الإسلامية أن تعترف بكل المذاهب الإسلامية اعترافا قانونيا وألا تميز بين أتباعها. - على الذين يملكون القرار، اتخاذ قرارات سياسية تدفع المجامع والمؤسسات الإسلامية وكافة الجهات المعنية للقيام بترسيخ مباديء الوحدة الإسلامية. - على الجهات الرسمية المعنية بقضية التقريب المبادرةُ بتأسيس الفضائيات المشتركة بين جميع المذاهب الإسلامية، كما يفترض أن تقوم هذه الجهات بإنشاء المواقع الإلكترونية التقريبية لاستقطاب الشباب. {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}. وحسبي - في هذا البحث- من القلادة ما أحاط بالعنق.