تاريخ النشر2011 14 April ساعة 19:18
رقم : 45925
الرئيس الأسبق سليم الحص

"الحاجة إلى إصلاحات توافقية"

وكالة أنباء التقريب (تنا)
"لبنان معرض لمواجهة الحال التي طرأت على سائر الأقطار العربية"
"الحاجة إلى إصلاحات توافقية"
التحولات المهمة التي يشهدها العالم العربي هذه الايام تتلاقى عند رابط ملحوظ في ما بينها، هو القمع. يبدو جلياً أن ما من نظام عربي يتحمل المعارضة أو النقد. فإذا ما تجرأ أحدهم على ابداء اعتراض ما على اداء الحكم كان نصيبه القمع، في شكل او في آخر. وكثيراً ما يكون الاعتراض صادرا عن قاعدة واسعة شعبياً، مع العلم ان الانظمة العربية هي في معظمها شمولية، تفتقر الى جرعة محسوسة من الديموقراطية، بمعنى أن لا اعتبار يستحق الذكر للرأي العام فيها، أو لرؤى الناس في صوغ السياسة العامة، أو في اتخاذ القرارات.
وتجربة تونس، ثم مصر، كانت أنموذجا للحالة التي تجد سائر الاقطار العربية نفسها مضطرة الى مواجهتها. ففي تونس، كما في مصر، كانت انتفاضة شعبية عفوية فاعلة واجهتها السلطة بأساليب العنف والقمع المعهودة. فما كان الا أن تصاعدت الانتفاضة واستقطبت مقادير متزايدة من الانخراط الشعبي، فكانت الحصيلة سقوط النظام القائم وحلول نظام جديد محله. وقد ترتب على هذا التطور المهمّ الهاب المشاعر الوطنية في سائر الأقطار العربية وإيقاظ الوعي لدى أكثر الشعوب العربية، فتحرك الوضع على وجه صاخب، ولو بأشكال ومقادير متفاوتة، في ليبيا واليمن والعراق وأخيراً سوريا.
الدرس البليغ الذي يستخلص من التجربة العربية على هذا الصعيد هو ان الحالة المستجدة ليست حالة أمنية بالمعنى الخالص للكلمة وانما هي تعبير عن شكوى اساسية لدى شعوب المنطقة صادرة عن شح الحريات العامة وعن الافتقار الى حقوق ومزايا تتلازم عموماً مع الممارسة الديموقراطية الصحيحة ، مثل غياب التمثيل الشعبي الصادق في الحكم على مختلف درجاته، وكذلك ضعف، أو شبه غياب، آليات فعّالة للمساءلة والمحاسبة، على وجه فاعل في الميادين السياسية والادارية والمالية والقضائية.
على المستوى السياسي تمارس الرقابة على وجه بارز من طريق النظام الانتخابي،
كما من طريق النشاط البرلماني. فالنظام الانتخابي يؤمن آلية صالحة لمحاسبة النائب في البرلمان على ادائه، فيعاد انتخاب من يتمتع اداؤه برضى الشعب وتأييده، ويفقد المقعد النيابي ذاك الذي لا يحظى أداؤه السياسي برضى الهيئة الناخبة، أي سائر المواطنين عموماً. وتمارس الرقابة على السلطة الاجرائية، المتمثلة في الحكومة أو مجلس الوزراء، من طريق اللجوء الى طرح الثقة بالحكومة داخل مجلس النواب، فتنالها أو تحجب عنها. فاذا ما نالت الحكومة الثقة فان وضعها يتعزز فتستمر في الحكم، واذا حجبت الثقة عنها فلا يعود أمامها سوى الاستقالة أو التنحي، ليأتي طاقم جديد الى الحكم برؤية متجانسة وجديدة.
الرقابة، أو المساءلة والمحاسبة، ظاهرة مميزة للنظام الديموقراطي الفاعل، ونحن، في العالم العربي، نفتقر اليها على وجه فاعل. حتى في لبنان، الذي نقول فيه انه ينعم بالكثير من الحرية وانما بقليل من الديموقراطية، يكاد فعل المساءلة والمحاسبة على الصعيد السياسي يكون معدوماً. فالانتخابات النيابية فيه تتحكم بنتائجها الى حد بعيد عوامل سلبية غير ديموقراطية مثل المال السياسي، اذ تنفق أموال طائلة في المعارك الانتخابية، وتكون للزعامات التقليدية أو الفئوية هيمنة واضحة على مسار الانتخابات واستطراداً كثيراً ما تكون للفئوية، وتحديداً للعصبيات الطائفية والمذهبية، سطوة حاسمة على نتائج العمليات الانتخابية. وهذا ليس من الديموقراطية في شيء.
وفي الميدان الاداري كثيراً ما تكون الرقابة الفعالة مفتقدة في الدول النامية، فيستشري الفساد والعقم والتسيب. وكذلك في الميدان المالي، حيث يتجلى هزال الرقابة في معدلات مرتفعة من اهدار المال العام. هذا مع العلم أن في بلد كلبنان تمارس الرقابة ظاهراً على الادارة عبر مؤسسات وجدت لهذا الغرض، مثل مجلس الخدمة المدنية والتفتيش المركزي، وتمارس الرقابة المالية من طريق ديوان المحاسبة وعمليات اعداد الموازنة وضبطها. الا أن الرقابة الحقيقية تبقى ضعيفة على كل هذه الصعد،
نظراً الى وجود معوقات على المستويات الاخلاقية والتنموية والتنظيمية. هذا فضلا عن ان الفساد اضحى أشبه بالتراث والعياذ بالله.
والقضاء في البلدان الاكثر تقدماً يشكل مرجعية مهمة للرقابة على اعمال الدولة. فأي خلل في أداء أجهزة الدولة يمكن المواطن المتضرر ان يراجع القضاء في شأنه. ومن المفترض ان يحفظ بذلك حقه ومصلحته. الا ان القضاء في العالم الاقل تقدماً عموماً لا يفي بالغرض المنشود، نظراً الى الفساد السائد ووهن أنظمة الرقابة المطبقة. وبلدنا لبنان لا يشذ كثيراً عن هذه القاعدة الذميمة.
من هنا قولنا المتكرر ان في لبنان الكثير من الحرية وإنما القليل من الديموقراطية. وفي ظل حال الضعف في الممارسة الديموقراطية ان لبنان معرض لمواجهة مثل الحال التي طرأت على سائر الأقطار العربية، أو أقله على بعضها، حتى الآن. وليس هناك ما يدعو الى الاعتقاد القاطع أن التحولات التي كان بعض الأقطار العربية مسرحاً لها، بدءاً بتونس ثم مصر، يمكن أن تتواصل في أقطار عربية أخرى حتى تعمّ العالم العربي أجمع. إلا أن الحصيلة في شتى الأقطار العربية يتعذر التكهن بها أو الجزم بايجابيتها في كل الحالات.
لذا نحن ندعو الى إطلاق حوار وطني موسع في لبنان، استباقاً وتداركاً لانفجار أزمة شبيهة بتلك التي تعرضت لها أقطار عربية أخرى يمكن ان تنجم عنها أ خطار وانعكاسات غير حميدة، نحن في غنى عنها. نحن في لبنان في حاجة ماسّة الى اصلاحات سياسية وادارية ومالية وقضائية واسعة. هذا من المسلمات. فلنسلك طريق الاصلاح الهادئ والبناء قبل أن تدهمنا التطورات، والاصلاح ينبغي أن يكون محور حوار وطني جامع. ذلك لأن التوافق هو الذي يضمن مرور الإصلاحات من دون إثارة قلاقل أو اضطرابات لا تحمد عقباها، وخصوصاً في مجتمع تعددي كالمجتمع اللبناني، علما أن منطلق العملية الاصلاحية هو الإصلاح السياسي، الذي يكتنفه الكثير من الحساسيات والمواقف المتعارضة. من هنا الحديث عن إصلاحات توافقية وليس عن إصلاحات مملاة من فوق.

افتتاحية صحيفة "النهار"
https://taghribnews.com/vdcgny9t.ak9nx4r,ra.html
الإسم الثلاثي
البريد الإلكتروني
أدخل الرمز