رواية الاعتقال تفصيل لا يغيّر في الواقع شيئًا، فهي لا تقلّل من قيمة النصر الذي تحقّق بكسر القيد ولو لأيام قليلة، ولا من وزن الإرادة التي تحدّت كلّ الإجراءات المقيِّدة ونفّذت ما خطّطت له، ولا من علوّ الروح التي تقاتل بكلّ أدواتها، وتصفع الصهيوني المدرّع بالتكنولوجيا وبالقوّة..
شارک :
ليلى عماشا
كانت ليلة تنبض بالحزن الآتي من الناصرة، فاعتقال الأسرى الأربعة من أقمار نفق الحرية وما رافق الخبر من روايات صهيونية حول ظروفه ومن تأويلات مختلفة ومتضاربة، حلّ انقباضًا في القلوب التي منذ الإعلان عن نفق جلبوع تنبض دعاءً للأحرار، وتتلو على أسمائهم كلّ ما حفظناه عن الجدات من كلمات التوسّل إلى الله كي يردّ عنهم "عيون العِدا" وكيد الظالمين.
تلقى النّاس الخبر بدمعة سبقت أي انفعال آخر وأيّ كلام يقال، دمعة أرادت نظرات الأبطال أن تكفكفها، وأن تطمئن القلوب كلّها أن "لا بأس". قالوا بعيونهم لنا جميعًا أن سنلتقي.. يقينًا سنلتقي.
بالحسابات المنطقية، بمعايير الصراع، بمنطق النصر والهزيمة، لا يمكن لأيّ حدث أو احتمال أن يرمّم ما انكسر في البنيان الصهيوني بفعل عملية "نفق جلبوع".. لقد انتصر الأسرى على سجّانهم، كلّ الأسرى، حتى أولئك الذين لم يتسنَّ لهم المشاركة في العملية، بل كلّ الأسرى في كلّ المعتقلات الصهيونية. وهذا النصر هو نصر موثّق دخل التاريخ واستقر في صدر الذاكرة العالمية، وهو نصر موثّق في عيون الصهاينة، في ارتباكهم وسقوط تحصيناتهم أمام إرادة حرّة لا يمكن أن تُقيّد بالسلاسل ولا بالأحكام ولا بالإجراءات السجنية القاسية ولا بالأسوار ولا بأي أداة مادية أو معنوية.
وكان احتمال اعادة اعتقال بعضهم أو كلّهم واردًا منذ الدقيقة الأولى التي اكتشف فيها السجانون أنّ الأحرار الستة قد عبروا نفق الحرية وصاروا خارج السور السجنيّ.. وما ابتهالات أهل الحبّ على مدى الساعات الفاصلة بين الإعلان عن خروج الأسرى وبين خبر اعتقال 4 منهم، إلّا إدراكًا واعيًا لاحتمال إعادة اعتقال القمرين الآخرين.. لكنّ تحقّق النصر بالخروج وجهوزية العقل لتلقي الخبر الأسوأ واليقين بأن كلّ الأسر مؤقت والحرية حتمية ستحقق، كلّ هذا لا يخفّف من حدّة الحزن ومن الوجع الذي رافق مشاهد الاعتقال.. واصلت القلوب دعاءها للاثنين الباقين مرفقًا بالدمع الغزير، وبالمناجاة التي تودّ أن تخترق الحدود كي تصل الناصرة، وتتبعهم إلى غرف التحقيق لدى "الشاباك"، وتخبرهم أن لهم في كلّ أرضٍ أهلًا وبيوتًا تنتظر عودتهم مع كل الأسرى.
سوّق الاحتلال لرواية ركيكة حول كيفية الاعتقال، رواية جارحة تتحدث عن ضلوع عائلة عربية بالإبلاغ عن أول أسيرين اعتُقلا وقد مرّا بمنزلها في الناصرة طلبًا للطعام! كلّ ما في هذه الرواية غير موثوق كونه صادرًا عن الصهاينة أولًا وثانيًا لأنه لم يبد على البطلين في المشاهد التي وثقت اعتقالهما أي مظهر يوحي بالإجهاد أو بالجوع الشديد أو ما شابه.. وثالثًا، لأنّه من البديهيّ أن لا يخاطرا بطرق باب بيت غريب عنهما مع علمهما أنّ كلّ ما في كيان الاحتلال مستنفر للبحث عنهما وعن رفاقهما.
بكلّ الأحوال، رواية الاعتقال تفصيل لا يغيّر في الواقع شيئًا، فهي لا تقلّل من قيمة النصر الذي تحقّق بكسر القيد ولو لأيام قليلة، ولا من وزن الإرادة التي تحدّت كلّ الإجراءات المقيِّدة ونفّذت ما خطّطت له، ولا من علوّ الروح التي تقاتل بكلّ أدواتها، وتصفع الصهيوني المدرّع بالتكنولوجيا وبالقوّة..
الآن، أثناء كتابة هذه السطور، اثنان من الأسرى ما زالا على الدرب.. هما يعرفان وجهتهما، بل يستطيعان أن يشيرا إلى جميع الناس نحو وجهة الحرية.. وما زالت كلّ عين صهيونية تبحث عنهما وتحاول اقتفاء اثرهما.. لا بدّ أحزنهما اعتقال رفاقهما، لكنّهما يعرفان جيّدًا أن احتمالًا كهذا لم يكن مستبعدًا، بل ويعرفان جيّدًا أنّ احتمال استشهادهما وارد أيضًا.. ومع ذلك خرجا إلى دربهما غير آبهين.. لا مكان للحزن الموهن في أيامهما..
هؤلاء الابطال يحيلون الحزن غضبًا يدفعهم إلى الأمام، ولذلك مكانهم في مقدّمة القوافل الحرّة، أحرار كسروا القيود، أو أحرار أسرى أو أحرار شهداء..