تصوب القيادة العسكرية الاميركية البوصلة إلى لبنان وتبحث منذ فترة غير بعيدة بايلاء الجيش اللبناني المزيد من العناية، واقع يدفع إلى طرح تساؤلات شتى حول النوايا الاميركية المستترة خلف هذا المشروع. إذ تفكر الولايات المتحدة بتزويد الجيش اللبناني ببعض العتاد العسكري، إضافة الى طائرة قتالية ثانية من نوع «سيسنا» التي لا تصل قدراتها إلى تشكيل تهديد على الكيان الصهيوني مع الأخذ بالإعتبار التنبه إلى الخطوط الحمر التي يفرضها واقع المنطقة .
الكلام الاخير لوليد جنبلاط إستوقف كثيراً كبار المسؤولين اللبنانيين على مختلف مواقعهم، اضافة الى السفارات الاجنبية. ذلك ان الزعيم الدرزي لا يطلق مواقفه في العادة في اطار رد الفعل الانفعالي لا بل فانه يجعل من كلامه مقدمة لمشروع سياسي يعمل للتمهيد له. والمقصود هنا، الهجوم العنيف الذي شنه جنبلاط على المؤسسة العسكرية والذي جاء من دون مبرر واضح او سبب مباشر.
وجنبلاط المعروف عنه حساسيته المفرطة تجاه الجيش اللبناني، بدا موقفه وكأنه يتناغم مع المناخ الذي تصاعد خلال الاشهر الماضية والذي هدف الى نزع الغطاء السياسي عن الجيش اللبناني، او على الاقل محاصرته وشل قدرته على التحرك.
فخلال الاشهر الماضية، تعرض الجيش لاستهدافات سياسية على خلفية الاحداث الجارية في سوريا، ما جعله في موقع دفاعي ازاء ضبط الارض. ولكن ومع تطور الاحداث بدا ان ما كانت تخشاه المؤسسة العسكرية حول الانعكاسات السلبية للازمة السورية على الساحة اللبنانية انما كان في مكانه.
فالساحة الشمالية باتت تحتضن «كادرات» غير لبنانية قادرة على هز الامن في كل لحظة. اضافة الى اعتماد الساحة الشمالية كساحة دعم خلفية للاحداث الجارية في سوريا، وان لناحية التواصل بين المقاتلين، او لناحية تمرير السلاح على انواعه.
هذا الواقع، دفع مثلا لاندلاع إشتباكات دامت ثلاثة ايام عندما أراد مجلس الوزراء ضبط الحدود الشمالية وإغلاق كل الثغرات الموجودة والتي تشكل ممرات لتهريب الاسلحة والرجال.
وباب الخطورة هنا، لا يتوقف فقط على ترك الساحة مفتوحة أمام تركيب بنية تحتية خارجة عن نطاق رقابة الدولة اللبنانية بكل ما للكلمة من معنى، بل انها تفتح باب استدراج الجيش السوري للتعامل امنياً وعسكرياً مع هذا الواقع، على غرار ما حصل مع الجنوب خلال المرحلة الفلسطينية، مع ما يعني ذلك من اثمان باهظة للسكان، وتراجع لحضور الدولة بكامل مؤسساتها.
وجاء كلام جنبلاط بالامس بمثابة الملحق المكمّل لهذا المشهد وبعد الزيارة المثيرة لمساعد وزيرة الخارجية الاميركية لشؤون الشرق الادنى جيفري فيلتمان ما يفتح باب الايحاءات والتكهنات. وفرغم محاولة التضليل التي اعتمدها جنبلاط بالايحاء بان الهدف هو الاستحقاق الرئاسي، الا ان الاوساط المراقبة قرأت في خلفية هذا الكلام ما هو ابعد من ذلك، محاولةضرب الجيش وشل حركته، لا بل ربما التشجيع على فرطه.
وفي هذه الرؤيا ما يستند الى المسار التاريخي لوليد جنبلاط. فهو خلال مراحل الحرب اللبنانية، كان شديد الخصومة لليرزة، كونه كان يعمل على ترتيب «منطقته» الصافية والتي تمتد من الشاطئ مع المرفأ البحري الى جبال الباروك. هذه المنطقة الصافية التي تطلبت جرف المنازل خلال حرب الجبل، بهدف تحضيرها للحظة التقسيم التي لم تأت. فدخل جنبلاط مرغماً في اتفاق الطائف، بعدما كان قد وصل الى حد الغاء العلم اللبناني، واندلاع ما عُرف يومها «بحرب العلم» مع حركة امل.
وهنالك من يقرأ في إندفاعة جنبلاط في الازمة السورية، آملاً في إنفراط النسيج الداخلي السوري، ما سيؤدي حكماً، إلى فتح أبواب التفتيت فيها وفي لبنان. لذلك، أبدى بعض الاقطاب اللبنانيين (وجنبلاط احدهم) قلقهم بسبب سياسة الفرملة التي نفذها الغرب حيال زيادة الدعم العسكري للمعارضة السورية، كون ذلك سيؤدي بطبيعة الحال الى فوضى التفتيت.
وجاءت الاشارات اللاحقة اكثر قلقاً لهؤلاء مع بدء التنفيذ العملي لهذا القرار، حيث بدأ الجيش اللبناني بمصادرة «السلاح النوعي» الذي يجري تسريبه الى سوريا من خلال مرفأ طرابلس. والمنطق يقول ان الجيش اللبناني ليس قادرا وحده على اكتشاف كل ذلك من دون مساعدة دولية.
وقد يكون هذا «القلق» وراء حملة جنبلاط الجديدة، على أمل أن يؤدي ذلك إلى حشر الجيش في الزاوية، ولم لا العمل على ضربه من الداخل. إن وهم التفتيت أو الدويلات الذي يحلم به البعض، فيما بدا واضحاً أن هذا المشروع لا يلقى تشجيعا (حتى الآن على الاقل) على المستوى الدولي، لا بل على العكس.
ذلك ان فيلتمان قالها بوضوح في بيروت للذين يرفضون ان يسمعوا: «لا نستطيع الاندفاع اكثر في الازمة السورية، كما اننا لا نستطيع العودة الى الوراء..» لا بل فانه قال بشيء من التحذير بأن الخطر بات يحيط بالاقليات الدينية في المنطقة. وخلفية هذا الكلام تشير بوضوح الى ان اللعبة باتت في مرحلة خطيرة، والاسوأ ان الافق غير واضح.
وفي تأكيد آخر لهذا الاستنتاج، فان القيادة العسكرية الاميركية تبحث جدياً ومنذ فترة غير بعيدة بايلاء الجيش اللبناني المزيد من العناية، ولكن مع التنبه الى الخطوط الحمر التي يفرضها واقع المنطقة فمثلا، تسعى القيادة العسكرية الاميركية لتزويد الجيش اللبناني ببعض العتاد العسكري، اضافة الى طائرة قتالية ثانية من نوع «سيسنا». وهذه الطائرة تمتاز بقدرتها على القصف الجوي، لكنها لا تمتلك قدرة سريعة على الطيران ما يتلاءم مع وجه النظر الاميركية بعدم اثارة اسرائيل.
هذا الواقع يُستدل منه، بأن واشنطن تراهن على الجيش اللبناني، او بتعبير اوضح، بأنها لا تعمل حتى الان على الاقل في اطار تفتيت المنطقة وتغيير الحدود، بل في اطار الحفاظ على مصالحها ضمن التقسيم الجغرافي الحالي للمنطقة، وهي التي باشرت مفاوضات صعبة مع طهران. وقد تكون الحركة الخاطئة في المراحل الخطرة مكلفة على مستوى البلد بجميع فئاته، وتاريخنا مع الاسف، غني بالمآسي التي جاءت إثر حسابات خاطئة، أو بتعبير أدق اثر حسابات «عاطلة».