غزة تستقبل رمضان.. بالحزن للشهداء و الاسرى والقهر الاقتصادي . و غابت مظاهر الزينة والفوانيس من الشوارع التي كانت تجهزها العوائل والمؤسسات كما كل العام؛ فالحزن لا زال يخيم على القطاع الذي قدّم خلال أقل من شهرٍ أكثر من 110 شهداء، وآلاف الجرحى في مسيرة العودة الكبرى.
شارک :
في فضاء مخيمات العودة، شرق قطاع غزة، اختار الفلسطينيون الإفطار في مخيمات العودة و إقامة صلاة التراويح، ضمن الفعاليات السلمية المستمرة على بعد مئات الأمتار من الشريط الحدودي مع الاحتلال الإسرائيلي.
وبعد ساعات من المناوشات مع قوات الاحتلال في نقاط التماس قرب مخيمات العودة المقامة شرق محافظات القطاع الخمس، اصطف المئات بين يدي الله ليؤدوا صلاة العشاء والتراويح.
واستشهد 118 فلسطينيا من قطاع غزة منذ بدء فعاليات المسيرة، في 30 مارس الماضي، 62 منهم استشهدوا في مجزرة دامية الإثنين الماضي، بينما تجاوز عدد المصابين 12 ألفا منهم 3 آلاف أصيبوا خلال المجزرة الأخيرة.
وبذالك تبددت مظاهر الفرح والبهجة التي تتزين بها الشوارع المساجد ،اختفت وحلت محلها صور الشهداء وبقايا أحلامهم التي بترتها آلة الموت الصهيونية، و يستعين الغزيون في شهر رمضان الفضيل بنور الشموع في ظل قطع إسرائيل الكهرباء عن القطاع، ليضاف مصاب آخر إلى كبير مصائبهم منذ عقود.
فيما بدت الأسواق على غير حالها قبل حلول رمضان بيوم واحد، تكاد تخلو تلك الأسواق من مرتاديها سوى من شراء بعض الحاجيات الأساسية استعدادا للشهر الكريم.
ورغم ما يعانيه القطاع من حصار "إسرائيلي" مطبق، ورغم حالة الحزن الشديد التي حلّت بآلاف البيوت الفلسطينية بغزة، إلا أنّ السلطة الفلسطينية لا زالت تمارس عقوباتها ضد آلاف الموظفين وترفض صرف رواتبهم.
ويأتي رمضان هذا العام للمرة الأولى ولم يتقاض فيها هؤلاء الموظفون الرواتب بشكل كامل، حيث تعمدت السلطة قبل عام من الآن خصم رواتب الموظفين بنسبٍ تفاوتت بين 50 لـ 30% إلا أنّ الشهر الأخير امتنعت السلطة عن صرف رواتب موظفيها بشكل كامل، فيما صرفت للعشرات منهم جزءًا زهيدًا جداً من الراتب.
وكانت السلطة فرضت قبل عام من الآن إجراءات عقابية ضد القطاع، أبرزها تقليص كمية الكهرباء الواردة له، وخصم ما نسبته 30 إلى 50% من رواتب موظفي السلطة، وإحالات بالجملة للتقاعد، عدا عن تقليص التحويلات الطبية.
اما أسواق مدينة غزة، ؛ فالبضائع مكدسة، والزبائن شحيحة، تكتظ الأسواق نعم بالزبائن إلا أنّ قدرتهم الشرائية انخفضت إلى أقل من النصف مقارنة مع رمضان المنصرم.
ويؤكّد عدد من التجار أنّهم لم يستشعروا قدوم موسم رمضان هذا، حيث سبق قدوم رمضان مسيرات العودة التي أُعلن خلالها الإضراب العام ، وارتقاء أكثر من 110 شهيداً، حداد عام على أرواح الشهداء، و الأسواق حزينة، و يدخل علينا رمضان وكأنّه جاء فجأة بلا إعداد ولا استعداد.
ويعيش نحو 2 مليون نسمة في قطاع غزة، حيث تؤكّد الإحصائيات الرسمية أنّ 80% من الغزيين يعيشون تحت خط الفقر، فيما تتجاوز نسب البطالة بين أهالي قطاع غزة 46.6% مع مطلع العام الجاري، وتجاوز عدد العاطلين عن العمل ما يزيد عن 243 ألف شخص.
وبأرقام ؛ فإنّ 80% من السكان تحت خط الفقر، و50% نسبة البطالة، و60% نسبة البطالة بين فئة الشباب والخريجين، وبينت أنّ 2 دولار معدل دخل الفرد اليومي، وأن هناك ربع مليون عامل معطل عن العمل، وأنّ مليون ونصف مليون مواطن يعتمدون على المساعدات الإغاثية.
و اصبحت أوضاع غزة المأساوية جزء من شعارات مسحر رمضان ، سكون الليل في غزة خلال الشهر الفضيل يقطعه صوت المسحراتي ليوقظ الناس ويصبح واحداً منهم على مائدة السحور.
تتمثل مهمة المسحراتي في إيقاظ المسلمين في ليالي رمضان لتناول وجبة السحور، والمشهور عنه حمله للطبلة أو المزمار ودقها أو العزف عليها بهدف إيقاظ الناس قبل صلاة الفجر، وعادة ما يكون الطبل مصحوباً ببعض التهليلات أو الأناشيد الدينية.
وفي غزة للمسحراتي طعم آخر فلا يكتمل رمضان من دونه، ويرتبط ارتباطا وثيقاً بالتقاليد الشّعبية الرّمضانيّة، فقبل الإمساك بساعتين يبدأ المسحّراتي محمد الجملة جولته الّليلية في شوارع حي الشيخ رضوان، جنوب مدينة غزة موقظاً أهلها عبر ضربات طبلته وصوته الجميل الذي يصدح بأجمل الكلمات.
لم يستسلم الجملة لظروفه الاقتصادية الصعبة وعدم قدرته على توفير احتياجاته المعيشية، بعدما تخرج من الجامعة والتحق بركب البطالة، فأخذ يبحث عن مصدر للرزق الحلال، أملا في تحقيق أحلامه البسيطة.
مهنة "المسحراتي"، كانت الملاذ الوحيد الذي وجد فيه محمد الأمل في توفير لقمة العيش لزوجته وابنه الوحيد وتوفير رسومه الجامعية بعدما مل من البحث عن عمل آخر يساعده في إيجاد حياة كريمة لأسرته.
أما صديقه أحمد "25عاماً" والذي يمتهن النجارة صنعة له، خاض العمل كمسحراتي منذ 6 سنوات على التوالي في مخيم النصيرات جراء ضعف العمل في مهنته الأصلية.
وبيّن أحمد "على الرغم من أني امتلك صنعة النجارة التي لا يتوفر العمل بها دائما نتيجة الحصار المتواصل علي القطاع أضطر للعمل في هذه المهنة لتوفير لقمة العيش".
وأشار إلى أنه عزف عن الدراسة لمساعدة والده في إعالة أسرته المكونة من سبعة أفراد، إضافة إلى زوجته وابنته، مضيفاً "باقي العام ندبر أمورنا من هنا وهناك لنتمكن من تربية أولادنا وتوفير مستلزماتهم الحياتية".
واستدرك "بدأت العمل كمسحراتي حينما كان عمري 17عاماً، حيث كنت أخرج رفقة جاري لأتعلم منه بعض الشعارات عن الوحدة وفضل رمضان وذكر الله، وكنت ألبس الزي وأبدء عملي بهمة ونشاط"
ويذكر أبو رائد مطر البالغ من العمر 63 عاماً أيام رمضان قبل خمسة وأربعين عاماً، ويستحضر المسحراتي أبو يوسف الملقب بـ"المزعمط"، ويضيف:" ما كان مع المزعمط طبلة، كان يضرب على تنكة كبيرة وعصايتين يطبل فيهم، وكان معه ابنه يحمل معه الفانوس، كانت أيام حلوة كثير".
ويضيف الحاج السيتيني "كان ييجي يسحرنا من الساعة 2 الفجر، ويظل للأذان، ويقول اصحى يا نايم وحد الدايم، رمضان كريم"، مشيراً إلى أن المسحراتي "المزعمط" هو الرجل الوحيد الذي كان يقوم بتسحير المواطنين في منطقة معسكر جباليا آنذاك.
وأوضح أنه لم يكن غير المسحراتي يعمل على إيقاظهم في وقت السحور، لعدم وجود مساجد آنذاك، سوى مسجد العودة.
وأضاف مطر ضاحكاً "كنا نفتح الشبابيك قبل النوم، وييجي المزعمط بيت بيت يسحرنا، نمد عليه خبز ما يرضى يأخدهم، بدو بس قروش"، متمنياً أن تعود تلك الأيام، وأن يرجع زمن المسحراتي، لأنه من التراث الفلسطيني، الذي يخلق أجواء جميلة في رمضان.
ويحصل المسحراتي في غزة على راتبه من المواطنين صباح العيد، باعتبارها "عيدية" على المجهود الذي بذله لإيقاظهم على السحور خلال رمضان.
وحسب ما ذكره المؤرخون؛ فإن أول مسحراتي ظهر عام 238 هجري، وهو والي مصر "عتبة بن إسحاق"، فتطوع بنفسه لهذه المهمة فكان يطوف شوارع القاهرة ليلا لإيقاظ الناس لتناول السحور استعداداً لصيام يوم جديد من رمضان.
لا يختلف شهر رمضان الفضيل كثيرًا في الأراضي الفلسطينية المحتلة عن أي شهر آخر، لطالما أن الشعب الفلسطيني قابع تحت مقصلة الاحتلال الإسرائيلي الذي يُجدد ضرباته واقتحاماته، فمُنذ أيام جددت القوات الإسرائيلية، اقتحام المسجد الأقصى في القدس،
لكن رغم الحصار والاقتحام، ورائحة الدماء، والأسر، يجد الفلسطينيون متنفسًا في إحياء طقوس رمضان، وعادات وتقاليد الشهر، فمازال المسحراتي يجوب الكثير من شوارع المدن والقرى الفلسطينية، يشدو بالأناشيد الرمضانية والأذكار، ويرافقه الطبل الذي ينقر عليه بقوة، وتتراص زينة رمضان في البيوت والحارات العتيقة، يتوسطها الفوانيس الضخمة والصغير منها.
كما تستمر تكية "خاصكي سلطان"، عمرها أكثر من 500 عام، اسستها زوجة السلطان سليمان القانوني، روكسيلانة (روسية الأصل)، في سنة 959هـ، لإطعام الفقراء والطلبة، ووقفت عليها عقارات كثيرة في أنحاء فلسطين، وهي من أهم المنشآت التي أقامها العثمانيون في القدس.
وتتكون هذه التكية من فرنين، ومطبخ، ومتوضأ، وغرفة ضريح. ويتداخل بناؤها في أقسام عديدة من مبنى سرايا الست طنشق المظفرية (دار الأيتام الإسلامية)، وهي الآن تمول من أهالي الخير في القدس؛ حيث تُقدّم الوجبات الساخنة يوميا لمن يقصدها من سكان المدينة من المحتاجين والفقراء وأيضا من الزوار من الضفة الغربية وقطاع غزة، بخاصة في شهر رمضان الذي تزداد فيه أعداد الوافدين إلى المسجد الأقصى.
اما التكافل و صلة الارحام في شهر رمضان، هناك أيضًا ترى بيوت شهداء الانتفاضة وقد امتلأت بالزائرين في مشهدٍ تكافلي يليق بأهل الكرامة، هناك لسان حال الزائرين «كلنا ولادك يا أم الشهيد».
و رغم اعتلاء علامات القهر وجوههم يبتهجون عنوةً عمن يُحاصرهم ويُحاربهم في أرزاقهم، ترى المواطنين يتبادلون أطباق الإفطار بمحبةٍ كبيرة، وشبابٌ كُثر تطوعوا أملًا في إطعام من لم يجدوا طعامًا لكسر صيامهم، في غزة ترى المساجد تكتسي بالمصلين يؤمنون على الدعاء يرجون استجابًة من ربٍ كريم في شهره الفضيل.
لا يُنكر أحد أن أعوام الحصار الإسرائيلي الاخيرة على قطاع غزة، نالت من جوانب حياة سكانه اقتصاديًا واجتماعيًا، وأناروا قلوبهم بفعلِ الخيرات والتمسك بعادات الأجداد ذات البعد الديني والاجتماعي.
في منزل «محمد أبو جلنبو» شرق مدينة خان يونس، وما إن انتهت صلاة العصر حتى بدأت بناته المتزوجات وأبناؤهن بالتوافد استعدادًا لتناول طعام وليمة أول أيام شهر رمضان، فتلك عادة حرص عليها الحاج محمد منذ عشرين عامًا، يقول: «إن أوضاعي المادية صعبة ولا أتلقى إلا نصف معاشي ولكن لم يمنعني ذلك من القيام بواجب صلة الرحم لبناتي المتزوجات».
زوجته صنعت أصنافًا مختلفة تُفضلها بناتها منها الملوخية والسمبوسك وورق العنب في حين استعاضت عن طبق الدجاج بشيِّ أصابع الكفتة، فثمن الأولى غالٍ جدًا، كما قالت.
رغم الحصار والدمار، وفي ذات المدينة الواقعة جنوب القطاع، ما إن تعلو الشمس ذراعًا في السماء حتى تضج الشوارع بحركة الأطفال ذاهبين إلى المساجد يُلقون على مسامع مُحفظيم ما أتقنوا من آيات القرآن، فترتد إليهم جوائز مباركة خاصةً الصائمين منهم.
فهذه عطرة نبيل، تجمع فتيات حارتها بحي الشيخ ناصر، في حلقة حفظ وذكر للقرآن الكريم في مسجد المُصطفى، تُعلمهم كيف يتلون آياته ويحفظونها في صدورهم، تقول الفتاة التي تدرس بالسنة الرابعة قسم علاج طبيعي بالجامعة الإسلامية بغزة: «رمضان شهر القرآن وأحاول أن أغرس حبه والتعلق به في نفوسهم كي يُثمر عزًا ونصرًا في المستقبل».
بيت المُحفظة عطرة، لا يبعد سوى مئات الأمتار فقط عن المسجد، منذ صغرها ترى مأذنته وتسمع صوت نداء إمامه فأرادت أن تكون أداة هداية، تؤكد أنها تشترك مع طالباتها في سباق لحفظ خمس آيات يوميًا يختارونها فيما بينهم من طوال السور في القرآن الكريم ليحيوا بها صلاتهم خاصة صلاة التراويح خلال شهر رمضان، وتُضيف: «أسعد كثيرًا حين يتفوقن عليَّ».
وبعيدًا عن أجواء المدن وصخبها وصولًا إلى المناطق التي دمرها الاحتلال الإسرائيلي خلال حربه الأخيرة على قطاع غزة يونيو 2014، تجد خلايا نحل من الشباب المتطوعين لدى الجمعيات الخيرية لتقديم وجبات الإفطار الساخنة على من لا يملكون ثمنًا لها بعد أن فقدوا بيوتهم ومصدر رزقهم ولم تُسعفهم أموال الإعمار في استعادة تفاصيل حياتهم التي قضت عليها الحرب. «كامل الهيقي» واحد من أولئك الشباب بادر مع مجموعة من أصدقائه لجمع تبرعات ومبالغ مالية لشراء وجبات إفطار ساخنة لمن لا يمتلكوها من الفقراء وأفقر الفقراء في القطاع والذين تجاوزت نسبتهم وفق الأرقام الرسمية لجهاز الإحصار المركزي الفلسطيني الـ 65%، يقول: «تلك الوجبات أقل ما يُمكن أن نُقدمه لمن حرموا منها»، ويقول أنه ينشر مبادراته عبر صفحته على فيسبوك مما يُمكنه الحصول على تبرعات مُجدية أحيانًا سواء من أهل الخير خارج القطاع أو داخله، ويُتابع «أطلقت حملة لزيارة الأرحام وتقديم الهدايا الرمضانية… استطعنا خلال أيام رمضان الماضية أن نوفر مساعدة لـ 15 عائلة في مبادرة زيارة الأرحام ونطمح للمزيد»، ويستكمل حديثه: «تلك المبادرات تُعمق أواصر المحبة والألفة وتُنهي مشاعر الخجل والحرمان».
هكذا تمر أيام شهر رمضان في الأراضي الفلسطينية، كثيرٌ من وجع المحتل الذي يُريد إنهاء أي مظاهر إيمانية وروحانية للشهر بالتضييق على السكان في كل مكان، فيحرم الأقصى من رواده، والأمهات من أبنائهن بين أسيرٍ وشهيد، ويمنع دخول المساعدات إلى قطاع غزة بفعل إغلاق المعابر. يقابل ذلك، إصرارٌ عظيم وتلاحم عزَّ نظيره بين أفراد المجتمع الفلسطيني، تلاحم يليق بتضحياتهم ويُنهي بعض تفاصيل معاناتهم.