جاء توقيت إفراج كتائب القسام عن التسجيل الصوتي للجندي، بعد أسبوعين من انتهاء معركة سيف القدس، والتي حفرت عميقاً في الوعي "الإسرائيلي"، وتركت آثاراً نفسية هائلة على مستوطني الكيان، وظهر التسجيل ليشكل مزيداً من الضغط على الوعي الصهيوني بالعجز، وعلى الوضع النفسي لمستوطني الكيان وحالة من الهلع.
شارک :
ايهاب زكي
في توقيتٍ دقيقٍ جداً، أفرجت كتائب الشهيد عز الدين القسام عن مفاجأةٍ صوتية لأحد الجنود الصهاينة، وهو واحد من أربعة أسرى لدى كتائب القسام حسب الرواية "الإسرائيلية" المعلنة، جنديان قتيلان و"مدنيان" حيّان.
ورغم نشر التسجيل الصوتي فإنّ رئاسة الحكومة الصهيونية، أصرّت على أنّ التسجيل هو "تلاعب رخيص" كما وصفته، وأنّ الجنديين قد قتلا أثناء عملية الأسر. ومع العلم أن عائلة الأسير التي تقول عنه "إسرائيل" إنه "مدني" عبر الحدود بمحض إرادته، قالت إنّه ليس صوت ابنها، إلّا أنّ أحداً لا يستطيع تأكيد الرواية "الإسرائيلية" عن مقتل الجنديين، وأنّ ما لدى كتائب القسام مجرد جثتين، كما لا يستطيع أحد الركون أصلاً للرقم "4"، الذي تقول به "إسرائيل"، فقد يكون عدد الأسرى أكبر من ذلك. وحسب ما تحدث به نائب قائد أركان كتائب القسام، يبدو أنّ هذا الملف يحتوي على الكثير من المفاجآت، التي قد تجعل منه ملفاً شائكاً جداً بالنسبة لأيّ حكومة صهيونية.
ففي ظهوره الإعلامي الأول، على شاشة "الجزيرة" القطرية ومن خلال برنامج ما خفي أعظم، كان مروان عيسى نائب قائد أركان كتائب القسام، واثقاً مما لديه من أوراق قوة، وكان رابط الجأش حين الحديث عن تحمل الأثمان في سبيل الهدف الأسمى، وقد بدا ذلك من خلال السرد التاريخي لمراحل التفاوض على صفقة شاليط.
خمس سنوات من التفاوض المضنّي والصعب والمحبط أحياناً، دللت بما لا يدع مجالاً للشك، على أنّ المفاوض الفلسطيني كان يتمتع بإصرارٍ شديد، وكان مستعداً لتحمل كل الضغوط السياسية والعسكرية والأمنية. وإذا نظرنا حينها على مدى زمن التفاوض والذي استمر لخمسة أعوام، منذ العام 2006 وحتى العام 2011، نجد أنّ ميزان القوى كان مختلاً بشكلٍ كارثيٍ لصالح العدو، وأنّ المقاومة في تلك الفترة كانت على مستوى العدد والعدة والخبرة والتجهيزات لا تُقارن على الإطلاق بيومنا هذا، ورغم ذلك فقد نجحت في فرض شروطها، ونجحت كذلك في كسر تابوهات "إسرائيلية" كان يُمنع الاقتراب منها، كمسألة الإفراج عن أسرى فلسطينيين من القدس والداخل المحتل.
صرّح نائب قائد أركان كتائب القسام بأنّ ملف الأسرى على رأس أولويات الكتائب في هذه المرحلة، وهذا بالطبع يؤكد أنّ "إسرائيل" تحاول تمييع ملف التبادل، من خلال ربطه بمفاوضات إعادة الإعمار، بمعنى أنّ العدو يحاول جاهداً التملص من دفع الثمن، ولكن تأكيد القائد مروان عيسى أنّ الملف على قمة الأولويات، يجعل من المحاولات "الإسرائيلية" مجرد تضييع للوقت، فالتجربة السابقة تؤكد أنّ المقاومة نجحت في فرض شروطها رغم اختلاف الظروف الراهنة لصالحها، مقارنة بظروف الصفقة السابقة.
الوضع السياسي في كيان العدو يزداد سوءًا يوماً بعد يوم، والحكومة المنصرفة بزعامة نتنياهو، لا تستطيع إبرام صفقةٍ في أيامها الأخيرة، وهي ستترك الملف مفتوحاً على سبيل الفخ في حال نجحت الحكومة الجديدة في نيل الثقة ومباشرة عملها، ولكن قد ترى حكومة بينيت التي ستولد هشةً في حال ولادتها، أنّ هذه الصفقة قد تكون إحدى ركائز تثبيتها وتقويتها، في حال نجحت في قلب السحر على الساحر نتنياهو. وهذا تقريباً ما حدث في صفقة شاليط، حيث اعتبر الوسيط المصري أنّ عرض حكومة أولمرت الموشكة على الانصراف، سيعيد التفاوض إلى النقطة صفر، مع تسلم حكومة نتنياهو الجديدة مقاليد السلطة، ولكن المفاوض الفلسطيني استطاع تجاوز هذه العصا والجزرة، وحين أتت حكومة نتنياهو تم إبرام الصفقة بالشروط الفلسطينية، واعتبرت "إسرائيل" أنّ صفقة شاليط إهانة وهزيمة لا يجب أن تتكرر، ولكن كما قال اولمرت في نفس البرنامج "إنّ الجميع يعرف أنّ (إسرائيل) هي الطرف الذي يتعب أولاً، فتقدم التنازلات".
جاء توقيت إفراج كتائب القسام عن التسجيل الصوتي للجندي، بعد أسبوعين من انتهاء معركة سيف القدس، والتي حفرت عميقاً في الوعي "الإسرائيلي"، وتركت آثاراً نفسية هائلة على مستوطني الكيان، وظهر التسجيل ليشكل مزيداً من الضغط على الوعي الصهيوني بالعجز، وعلى الوضع النفسي لمستوطني الكيان وحالة من الهلع.
تقول "إسرائيل" بمستوياتها السياسية والإعلامية والأمنية إن "حماس تشنّ علينا حرباً نفسية". وفي ظل نشاطٍ دبلوماسي وعملاني كبير لمحاولات الحفاظ على الهدوء، ما يخلق وفق الرؤية الأميركية تردداً في قرارات المقاومة، وإغواءً لتبعد يدها عن الزناد، جاء التسجيل ليقول العكس تماماً، فالاستعداد للضغط على الزناد قائم، والإصرار على تحقيق الشروط متواصل، وأوراق المقاومة أكبر من أن يتم تحجيمها، كما يبدو أنّ التوقيت له علاقة بمفاوضاتٍ جارية جدياً في ملف الأسرى، وأنّ العدو يحاول التعنت وكسب الوقت للضغط على المقاومة أمنياً، ومن خلال الوسطاء سياسياً.
والحقيقة أنّ الحرب النفسية قد نجحت بغض النظر عن نتائج مفاوضات التبادل، حيث ستشكّل النتيجة تهشيماً آخر لصورة الردع "الإسرائيلية"، وتقويضاً للدعاية الصهيونية بالقدرات الأمنية الخارقة للكيان، وحينها لن تكون مجرد حرب نفسية، بل هزيمة سياسية وأمنية وعجز عسكري، خصوصاً أنّها لا تمتلك الكثير من الخيارات، فقطاع غزة الصغير والمحاصر والذي كانت تفاخر "إسرائيل" بأنّها تعرفه كما يعرف الإنسان كف يده، تبيّن أنه ما زال عصيّا عليها، رغم أنها احتلته لما يقرب من أربعين عاماً، ولا زالت تحاصره براً وجواً وبحراً بعد الانسحاب عام 2005، وتراقب كل حركاته وسكناته على مدار الساعة جواً وبراً وبحراً، وقد استطاع القطاع إخفاء جلعاد شاليط خمسة أعوام، وإخفاء أسرى العدو "الأربعة"، منذ عام 2014 حتى اليوم.
ماذا لو قارنت "إسرائيل" مساحة وقدرات قطاع غزة، بمساحات وقدرات محور المقاومة، وما الذي يخفيه عن أعين أمنها؟ هذه المعادلة تجعل من "إسرائيل" قابلة لتلقي الصفعات المتتالية بصمت كخيارٍ أول، أو ارتكاب الحماقة الأخيرة كخيارٍ أخير.