الاستئناف الحضاري مشروع هام تتابعه الجمهورية الإسلامية على أعلى المستويات السياسية والثقافية والعلمية تحت عنوان: «الحضارة الإسلامية الحديثة» وهذا عنوان يتكرر باستمرار على لسان القيادة الإسلامية وعُقدت من أجله مؤتمرات جامعية عديدة، ويتابعه أيضًا المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية باعتباره المشروع الذي يجمع كل الذين يعقدون الأمل على مستقبل هذه الأمة، بمختلف قيومياتها ومذاهبها.
شارک :
تحت هذا العنوان الذي يتجاوب مع آمال الأمة في مستقبل حياتها، والذي يجمع الشعوب الإسلامية على تحقيق هذا الهدف الكبير عقد منتدى كولالامبور في اسطنبول مؤتمره السادس بمشاركة المفكرين والعلماء وقيادات الحركات السياسية، وبدأت أعماله يوم الثلاثاء 13 ديسمبر 2022م.
إننا إذ نبارك للقائمين على أمر هذا المنتدى والذي ينهج فكر مالك بن نبي ومحاضير محمد والإحيائيين في العالم الإسلامي المعاصر، نأمل أن تكون نظرته شاملة لجميع مشاريع الاستئناف الحضاري والإحياء في الدائرة الحضارية الإسلامية، متجاوزين في ذلك الحواجز القومية والطائفية والاقليمية. ومن الملاحظ في عنوان المؤتمر أيضًا أنه يريد أن يتناول الجذور والواقع والمستقبل. الاستئناف الحضاري مشروع هام تتابعه الجمهورية الإسلامية على أعلى المستويات السياسية والثقافية والعلمية تحت عنوان: «الحضارة الإسلامية الحديثة» وهذا عنوان يتكرر باستمرار على لسان القيادة الإسلامية وعُقدت من أجله مؤتمرات جامعية عديدة، ويتابعه أيضًا المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية باعتباره المشروع الذي يجمع كل الذين يعقدون الأمل على مستقبل هذه الأمة، بمختلف قيومياتها ومذاهبها.
ومن الرائع في عنوان المؤتمر أنه جمع بين الاستئناف الحضاري والاحياء، ذلك أن الإحياء هو المقدمة اللازمة للحراك الحضاري. فالجسم الحيّ هو الذي يتحرك ويُبدع ويصنع حضارة، والأمة الحيّة هي التي تيستطيع أن يكون لها مكان في ساحة الحضارات العالمية.
وثمة مفردات تندرج ضمن منظومة واحدة هي: الدين الإلهي، والإحياء، والحضارة.
فالدين الالهي يدعو إلى الإحياء: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ ".
والرسالة الخاتمة بهذا الإحياء بنت حضارة تفخر بها الإنسانية بل البشرية.. بنت حضارة تجمع بين احتياجات الإنسان المادية والمعنوية، فتقدم العالم الإسلامي أيام ازدهاره الحضاري في العلوم الإنسانية والعلوم المادية، وبلغ بذلك دور الريادة في الساحة العالمية.
والإسلام أينما حلّ فجّر الطاقات التي أودعها الله في الإنسان. يشهد على ذلك كل جزء من أجزاء الدائرة الحضارية الإسلامية من الأندلس إلى أقصى شرق آسيا.
لكن الظروف السيئة التاريخية التي مرّ بها العالم الإسلامي خلال القرون المختلفة، وخاصة في عصر غزو المغول وأسوأ منه الغزو الغربي قد أفقد عناصر التفعيل الحضاري نشاطها، ومُني المسلمون بالتخلف عن ركب الحضارة العالمية.
والذي يجب أن يسعى إليه الإحيائيون اليوم إعادة تلك العناصر إلى فاعليتها وحيويتها. وعلى رأسها المثل الأعلى والعزّة والتعارف والعطش المعرفي.
المثل الأعلى هو الذي يدفع الحركة الحضارية على طريق التقدم، والله سبحانه هو المثل الأعلى الحق الذي يوفّر الطاقة الحركية للنمو والإبداع والتكامل، ولذلك فإن عقيدة الانشداد به سبحانه مستهدفة لتجعل الشعوب الإسلامية منشدّة إلى مُثل هابطة تجعل الفرد غارقًا في ظلمات ذاتيته وأهوائه، وبتعبير القرآن الكريم تجعل إلهه هواه: " أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ ".
والعزّة هي تخلق في الإنسان الشعور بأنه كائن له مكانته في الكون، وله هدفه الكبير في الحياة، والعزّة هي الحياة والذلّ هو الموت. وفي ظل العزّة التي ركز عليها القرآن الكريم في آيات عديدة: " وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ " اندفع الإنسان المسلم على مرّ التاريخ ليضيء الساحة البشرية بالعلم والعدل والقيم الإنسانية السامية.
التعارف أو التبادل المعرفي جعل الشعوب المسلمة تتحرك من خراسان في الشرق إلى الأندلس في الغرب طلبًا للمعرفة. والقرآن الكريم بيّن أن سبب اختلاف البشرية في جنسها وفي أقاليمها هو من أجل التعارف " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ". نعم ضخّ الإسلام في الأمة عطشًا معرفيًا جعلها تُنشد العلم ولو في الصين (في أقصى نقاط الأرض) وفي مناسك الحج رمزٌ لهذا العطش المعرفي في السعي بين الصفا والمروة. هاجر عليها السلام عطشت والعطش دعاها إلى (السعي) وكانت نتيجة السعي انفجار (زمزم) لتروي الاجيال على مرّ العصور.
أمتنا بحاجة إلى الارتباط الوثيق بمثلها الحق: "وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ ". وبحاجة إلى الشعور بالعزّة امتثالا لقوله تعالى: " وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ". وكذلك تحتاج إلى التعارف والعطش المعرفيء عندئذ تستطيع بإذن الله أن تحيا وأن تستأنف مسيرتها الحضارية. وما ذلك على الله بعزيز.