و نقل الأصمعي ما شاهده للامام السجاد في المكة المكرمة : كنت أطوف حول الكعبة ليلة ، فإذا شاب ظريف الشمائل وعليه ذؤابتان ، وهو متعلق بأستار الكعبة وهو يقول : " نامت العيون ، وعلت النجوم وأنت الملك الحي القيوم ، غلقت الملوك أبوابها ، وأقامت عليها حراسها ، وبابك مفتوح للسائلين ، جئتك لتنظر إلي برحمتك يا أرحم الراحمين " ثم أنشأ يقول :
يا من يجيب دعا المضطر في الظلم يا كاشف الضر والبلوى مع السقم قد نام وفدك حول البيت قاطبة وأنت وحدك يا قيوم لم تنم أدعوك رب دعاء قد أمرت به فارحم بكائي بحق البيت والحرم إن كان عفوك لا يرجوه ذو سرف فمن يجود على العاصين بالنعم
قال : فاقتفيته فإذا هو زين العابدين (ع). و نقل طاووس الفقيه : رأيته يطوف من العشاء إلى سحر ويتعبد ، فلما لم ير أحدا رمق السماء بطرفه ، وقال :إلهي غارت نجوم سماواتك ، وهجعت عيون أنامك ، وأبوابك مفتحات للسائلين ، جئتك لتغفر لي وترحمني وتريني وجه جدي محمد في عرصات القيامة ، ثم بكى.
وقال (ع) : وعزتك وجلالك ما أردت بمعصيتي مخالفتك ، وما عصيتك إذ عصيتك وأنا بك شاك ، ولا بنكالك جاهل ، ولا لعقوبتك متعرض ، ولكن سولت لي نفسي وأعانني على ذلك سترك المرخى به علي ، فالآن من عذابك من يستنقذني ؟ وبحبل من أعتصم إن قطعت حبلك عني ؟ فواسوأتاه غدا من الوقوف بين يديك ، إذا قيل للمخفين جوزوا ، وللمثقلين حطوا ، أمع المخفين أجوز ؟ أم مع المثقلين أحط ؟ ويلي كلما طال عمري كثرت خطاياي ولم أتب ، أما آن لي أن أستحي من ربي ؟ ! ثم بكى وأنشأ يقول (ع) :
أتحرقني بالنار يا غاية المنى فأين رجائي ثم أين محبتي أتيت بأعمال قباح زرية وما في الورى خلق جنى كجنايتي
ثم بكى وقال : سبحانك تعصى كأنك لا ترى ، وتحلم كأنك لم تعص تتودد إلى خلقك بحسن الصنيع كأن بك الحاجة إليهم ، وأنت يا سيدي الغني عنهم ثم خر إلى الأرض ساجدا ؟ قال : فدنوت منه وشلت برأسه ووضعته على ركبتي وبكيت حتى جرت دموعي على خده ، فاستوى جالسا وقال : من الذي أشغلني عن ذكر ربي ؟ فقلت : أنا طاوس يا ابن رسول الله ما هذا الجزع والفزع ؟ ونحن يلزمنا أن نفعل مثل هذا ونحن عاصون جانون ، أبوك الحسين بن علي وأمك فاطمة الزهراء ، وجدك رسول الله ! ؟ قال : فالتفت إلي وقال : هيهات هيهات يا طاوس دع عني حديث أبي وأمي وجدي خلق الله الجنة لمن أطاعه وأحسن ، ولو كان عبدا حبشيا ، وخلق النار لمن عصاه ولو كان ولدا قرشيا أما سمعت قوله تعالى " فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون " هذه الأبيات أنشدها الإمام زين العابدين ولم ينشئها .
و كذالك نقل دعاء الذي سمعه من الامام أمير المؤمنين علي (ع) و الدعاء المعروف بدعاء ( المشلول ) . وقد ذكر الحديث كله والشعر والدعاء العلامة المجلسي - ره - في المجلد التاسع من البحار ص 562 طبع الكمباني نقلا عن مهج الدعوات ويوجد فيه في ص 151 طبع إيران سنة 1323 .
قال ابن كثير الشامي في تاريخه البداية والنهاية ج 9 ص 109 : وروى الحافظ ابن عساكر من طريق محمد بن عبد الله المقرى ، حدثني سفيان بن عيينة عن الزهري قال : سمعت علي بن الحسين سيد العابدين يحاسب نفسه ويناجى ربه : يا نفس حتام إلى الدنيا سكونك ، والى عمارتها ركونك ، أما اعتبرت بمن مضى من أسلافك ، ومن وارته الأرض من آلافك ؟ ومن فجعت به من إخوانك ، ونقل إلى الثرى من أقرانك ؟ فهم في بطون الأرض بعد ظهورها محاسنهم فيها بوال دواثر خلت دورهم منهم وأقوت عراصهم وساقتهم نحو المنايا المقادر وخلوا عن الدنيا وما جمعوا لها وضمتهم تحت التراب الحفائر كم خرمت أيدي المنون ، من قرون بعد قرون ؟ وكم غيرت الأرض ببلائها ، وغيبت في ثرائها ممن عاشرت من صنوف وشيعتهم إلى الأرماس ، ثم رجعت عنهم إلى عمل أهل الافلاس : وأنت على الدنيا مكب منافس لخطابها فيها حريص مكاثر على خطر تمسى وتصبح لاهيا أتدري بماذا لو عقلت تخاطر وان امرءا يسعى لدنياه دائبا ويذهل عن أخراه لا شك خاسر فحتام على الدنيا اقبالك ؟ وبشهواتها اشتغالك ؟ وقد وخطك القتير ، وأتاك النذير وأنت عما يراد بك ساه ، وبلذة يومك وغدك لاه ، وقد رأيت انقلاب أهل الشهوات ، وعاينت ما حل بهم من المصيبات .
ومنها ما روى سفيان بن عيينة :أين السلف الماضون ؟ والأهل والأقربون ؟ والأنبياء والمرسلون ؟ طحنتهم والله المنون ، وتوالت عليهم السنون ، وفقدتهم العيون وإنا إليهم لصائرون ، وإنا لله وإنا إليه راجعون :
إذا كان هذا نهج من كان قبلنا فإنا على آثارهم نتلاحق فكن عالما أن سوف تدرك من مضى ولو عصمتك الراسيات الشواهق فما هذه دار المقامة فاعلمن ولو عمر الانسان ما ذرشارق
و عن مناقب ابن شهرآشوب : ومما جاء في صدقته ما روي في الحلية وشرف النبي والأغاني وعن محمد بن إسحاق بالاسناد عن الثمالي ، وعن الباقر إنه كان علي بن الحسين يحمل جراب الخبز على ظهره بالليل فيتصدق به ، قال أبو - حمزة الثمالي وسيفان الثوري كان يقول : إن صدقة السر تطفئ غضب الرب .
الحلية والأغاني عن محمد بن إسحاق إنه كان ناس من أهل المدينة يعيشون لا يدرون من أين معاشهم ، فلما مات علي بن الحسين فقدوا ما كانوا يؤتون به بالليل . وفي رواية أحمد به حنبل عن معمر ، عن شيبة بن نعامة : أنه كان يقوت مائة أهل بيت بالمدينة ، وقيل : كان في كل بيت جماعة من الناس .
وفي رواية محمد بن إسحاق إنه كان في المدينة كذا وكذا بيتا يأتيهم رزقهم وما يحتاجون إليه لا يدرون من أين يأتيهم ، فلما مات زين العابدين فقدوا ذلك فصرخوا صرخة واحدة .
وفي خبر : عن أبي جعفر إنه كان يخرج في الليلة الظلماء ، فيحمل الجراب على ظهره حتى يأتي بابا بابا ، فيقرعه ثم يناول من كان يخرج إليه ، وكان يغطي وجهه إذا ناول فقيرا لئلا يعرفه .
وفي خبر : أنه كان إذا جنه الليل ، وهدأت العيون قام إلى منزله ، فجمع ما يبقى فيه عن قوت أهله ، وجعله في جراب ورمى به على عاتقه وخرج إلى دور الفقراء وهو متلثم ، ويفرق عليهم ، وكثيرا ما كانوا قياما على أبوابهم ينتظرونه فإذا رأوه تباشروا به ، وقالوا : جاء صاحب الجراب . الحلية قال الطائي : إن علي بن الحسين كان إذا ناول الصدقة السائل قبله ثم ناوله .
شرف العروس : عن أبي عبد الله الدامغاني أنه كان علي بن الحسين يتصدق بالسكر واللوز فسئل عن ذلك فقرأ قوله تعالى : " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون " وكان : يحبه .
الصادق إنه كان علي بن الحسين يعجب بالعنب فدخل منه إلى المدينة شئ حسن ، فاشترت منه أم ولده شيئا وأتته به عند إفطاره فأعجبه ، فقبل أن يمد يده وقف بالباب سائل ، فقال لها : احمليه إليه ، قالت : يا مولاي بعضه يكفيه قال : لا والله وأرسله إليه كله ، فاشترت له من غد وأتت به فوقف السائل ، ففعل مثل ذلك فأرسلت فاشترت له ، وأتته به في الليلة الثالثة ولم يأت سائل فأكل وقال : ما فاتنا منه شئ والحمد لله .
الحلية قال أبو جعفر : إن أباه علي بن الحسين قاسم الله ماله مرتين . الزهري : لما مات زين العابدين فغسلوه ، وجد على ظهره مجل فبلغني إنه كان يستقي لضعفة جيرانه بالليل . الحلية قال : عمرو بن ثابت : لما مات علي بن الحسين فغسلوه جعلوا ينظرون إلى آثار سواد في ظهره وقالوا : ما هذا ؟ فقيل : كان يحمل جرب الدقيق ليلا على ظهره يعطيه فقراء أهل المدينة .