يقول الشيخ كاشف الغطاء في مقدمة الطبعة السابعة من كتاب "أصل الشيعة وأصولها": لم يبق ذو حس وشعور في شرق الأرض وغربها، إلا وقد أحسّ وشعر بضرورة الاتحاد والاتفاق، ومضرة الفرقة والاختلاف، حتى أصبح هذا الحس والشعور أمرًا وجدانيًا محسوسًا يحس به كل فرد من المسلمين، كما يحس بعوارضه الشخصية من صحته وسقمه...
شارک :
في «حديث التقريب» السابق، نشرنا وثيقة تقريبية عن الأستاذ الفقيد أحمد أمين المصري في مقدمة على كتاب تاريخ القرآن لأبي عبدالله الزنجاني، والوثيقة كانت هامة لأنها بقلم رجل عُرف بعدم توجهة الى وحدة الأمة وتقريب مذاهبها؛ وهذه وثيقة هامة أخرى لأنها تصدر عن رجل ذي مكانة هامة على صعيد فقهاء الشيعة وعلى الصعيد العالمي، هو "الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء" (ت 1955م)، وخطابه التقريبي يعبّر عن توجّه النجف الأشرف إلى دعوة الأمة نحو الوحدة والتفاهم والتعاون لدرء الأخطاء التي تهدد العالم الإسلامي.
يقول الشيخ كاشف الغطاء في مقدمة الطبعة السابعة من كتاب "أصل الشيعة وأصولها":
«لم يبق ذو حس وشعور في شرق الأرض وغربها، إلا وقد أحسّ وشعر بضرورة الاتحاد والاتفاق، ومضرة الفرقة والاختلاف، حتى أصبح هذا الحس والشعور أمرًا وجدانيًا محسوسًا يحس به كل فرد من المسلمين، كما يحس بعوارضه الشخصية من صحته وسقمه، وجوعه وعطشه، وذلك بفضل الجهود التي قام بها جملة من أفذاذ الرجال المصلحين في هذه العصور الأخيرة، الذين أهابوا بالمجتمع الإسلامي، وصرخوا فيه صرخة المعلم الماهر، وتمثّلوا للمسلمين بمثال الطبيب النطاسي الذي شخّص الداء وحصر الدواء، وأصاب الهدف بما عيّن ووصف، وبعث النفوس بعثًاحثيثًا، وشوّقها إلى استعمال الدواء لقطع مادة ذلك الداء الخبيث، والعلل والأمراض المهلكة، قبل أن تقضي على هذا الجسد الحي، فيدخل في خبر كان، ويعود كأمس الدابر.
صرخ المصلحون فسمع المسلمون كلهم عظيم صرخاتهم بأن داء المسلمين تفرقهم وتضارب بعضهم ببعض، ودواؤهم ـ الذي لا يصلح آخرهم إلا به كما لا يصلح إلا عليه أولهم ـ ألا وهو الاتفاق والوحدة، ومؤازرة بعضهم لبعض، ونبذ التشاحن، وطرح بواعث البغضاء والإحن والأحقاد تحت أقدامهم، ولم يزل السعي لهذا المقصد السامي، والغرض الشريف إلى اليوم دأب رجالات أنار الله بصائرهم، وشحذ عزائمهم، وأشعل جذوة الإخلاص لصالح هذه الأمة من وراء شغاف أفئدتهم، فما انفكوا يدعون إلى تلك الوحدة المقدسة ..وحدة أبناء التوحيد، وانضمام جميع المسلمين تحت راية «لا إله إلا الله محمد رسول الله» من غير فرق بين عناصرهم ولا بين مذاهبهم.
يدعون إلى هذه الجامعة السامية، والعروة الوثقى، والسبب المتين الذي أمر الله تعالى بالاعتصام به، والحبل القوي الذي أمر الله عزوجلّ به أن يوصل، يدعون إليها لأنها هي الحياة، وبها النجاة للامّة الإسلامية، وإلاّ فالهلاك المؤبّد، والموت المخلّد.
أولئك دعاة الوحدة، وحملة مشعل التوحيد، أولئك دعاة الحق، وأنبياء الحقيقة، ورسل الله إلى عباده في هذا العصر، يجدِّدون من معالم الإسلام ما درس، ويرفعون من منار المحمدية ما طمس، وكان بفضل تلك المساعي الدائبة، والجهود المستمرة من أولئك الرجال (وقليل ماهم ) قد بدت بشائر الخير، وظهرت طلائع النجاح، ودبَّت وتسرَّبت في نفوس المسلمين تلك الروح الطاهرة، وصار يتقارب بعضهم من بعض، ويتعرض فريق لفريق.
أمّا حيث تكون الآراء مجتمعة، والأهواء مؤتلفة، والقلوب متآلفة، والأيدي مترادفة، والبصائر متناصرة، والعزائم متوازرة، فلا القلوب متضاغنة، ولا الصدور متشاحنة، ولا النفوس متدابرة، ولا الأيدي متخاذلة، فهناك: العز والبقاء، والعافية والنعماء، والقهر والقوة، والملك والثروة، والكرامة والسطوة، هناك يجعل الله لهم من مضائق البلاء فرجًا، ومن حلقات السوء مخرجًا، ويبدلهم العزّ مكان الذلّ، والأمن مكان الخوف. فيصبحوا ملوكًا حكّامًا، وأئمة أعلامًا.
وهيهات أن يسعدوا مالم يتحدوا، وهيهات أن يتحدوا مالم يتساعدوا. فيا أيّها المسلمون لا تبلغون الاتحاد الذي بلغ به آباؤكم ما بلغوا بتزويق الألفاظ، وتنميق العبارات، أو نشر الخطب والمقالات، وضجيج الصحف وعجيج الأقلام… ليس الاتحاد الفاظًا فارغة، وأقوالاً بليغة وحكمًا بالغة مهما بلغت من أوج البلاغة، وشأو الفصاحة… ملاك الاتحاد، وحقيقة التوحيد هنا: صفاء نية، وإخلاص طوية، وأعمال جد ونشاط.وقد عرف اليوم حتى الأبكم والأصم من المسلمين أن لكل قطر من الأقطار الإسلامية حوتًا من حيتان الغرب، وأفعى من أفاعي الاستعمار فاغرًا فاه لالتهام ذلك القطر وما فيه… أفلا يكفي هذا جامعًا للمسلمين، ومؤجّجًا لنار الغيرة والحماس في عزائمهم، أفلا تكون شدة تلك الآلام وآلام تلك الشدة باعثة لهم على الاتحاد وإماتة مابينهم من الأضغان والأحقاد، وقد قيل «عند الشدائد تذهب الأحقاد»؟
وكيف يطمع المسلم أن يكتسح أخاه المسلم أو يستعبده، وهو شريكه في البلاد من أقدم العهد وأبعد الأجداد؟ أفلا تسوقهم المحن والمصائب التي انصبت عليهم صب الصواعق من الأجانب، إلى إقامة موازين العدل والتناصف فيما بينهم، ويحتفظ أهل كل قطر على التعادل الانتفاعي، والتوازن الاجتماعي؟...
إنّما الوحدة الحقة، والإخاء الصحيح الذي جاء به الإسلام، بل جاء بالإسلام، وتمشّت عليه الأمم الراقية، وبلغت أوج العزّ والقوة: أن يرى كلّ فرد من الأمة أنّ المصلحة النوعية هي عين المصلحة الفردية، بل هي فوقها، وهذه الصفة خفيفة في اللسان، ثقيلة في الميزان، بعيدة في الإمكان، يكاد أن يكون تحققها عندنا معشر المسلمين من المستحيلات، لاسيما من كل طائفة بالنظر إلى الأخرى التي تنظر كل منهما إلى الأخرى نظر العدو الألد، والمخاصم المزاحم، وإذا جامله في القول، أو أظهر له الولاء، فلن يجامله إلا ليخاذله، ولن يصانعه إلا ليخادعه، أمّا ملقًا أو تزلّفًا لغاية واهنة، أو توسلاً إلى أن يبتز ماله، أو يسلبه حقّه، أو تكون له السلطة عليه والاستعباد له، وكلهم جارون على غلوائهم في هذه السخائم التي صارت لهم ضربة لازب، لاتصدهم عنها صرخة ناصح، ولا صيحة زاجر، ولا عظة بليغ.
ينسى الكلُّ أو يتناسى عدوهم الصميم الذي هو لهم بالمرصاد، والذي يريد سحق الكلِّ، ومحو الجميع، ويبث بذور الشقاق بينهم ليضرب بعضهم ببعض، وينصب أشراك المكر لصيد الجميع . ولا يسلم المسلمون من هذه الشراك المبثوثة لهم في كلِّ سبيل حتى يتحدوا عملاً لا قولاً، وجِدًا لا هزلاً، وأقرب وسيلة إلى تنمية تلك البذرة، وتقوية تلك الفكرة – فكرة الاتحاد الجدي – هو: عقد المؤتمرات في كلِّ عام أو عامين، يجتمع فيها عقلاء المسلمين وعلماؤهم من الأقطار النائية، ليتعارفوا أولاً، ويتداولوا في شؤون الإسلام ثانيًا.
بل وأوجب من هذا: عقد المؤتمرات والمعاهدات بين حكّام المسلمين «لو كان للمسلمين حكام حق» فيكونون يدًا واحدة، بل كيدين لجسد واحد، يدفعان عنه الأخطار المحدقة به من كلِّ جانب، وقد أملت عليهم الحوادث بعد الحرب العامة دروسًا بليغة، وعبرًا محسوسة لو كانوا يعتبرون»؛ الى هنا ينتهي حديث كاشف الغطاء.
انه خطاب صدر في الخمسينات من القرن الماضي، ولا يزال ينادي المسلمين بنداء القرآن الكريم : ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾.
المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية/
الشؤون الدولية