حديث التقريب.. الامام الشهيد الصدر رائد الوحدة والتوحيد (2)
تنتا -خاص
موقف الشهيد الصدر من الثورة الإسلامية في إيران يبين من جهة ذوبان الشهيد في رسالته الإسلامية، ويوضّح ما يحمله من آمال للأمة الإسلامية، ويكشف عن قناعته في قدرة علماء الدين على قيادة الأمة وإقامة المجتمع الإسلامي.
كان الشهيد الصدر مرتبطًا عاطفيًا وسياسيًا وفكريًا بالإمام الخميني؛ فنراه يناصر الإمام منذ انتفاضته الأولى في الستينيات من القرن الماضي عبر رسالة يرسلها إلى أحد إخوانه العلماء يقول فيها، «وأما بالنسبة إلى إيران فإن الوضع كما كان وأقاي (السيد) خميني مبعدًا في تركيا من قبل عملاء أمريكا في إيران، وقد استطاع أقاي خميني في هذه المرة أن يقطع لسان الشاه الذي كان يتهم المعارضة باستمرار بالرجعية والتأخر، لأن خوض معركة ضد إعطاء امتيازات جديدة للأمريكان المستعمرين لا يمكن لإنسان في العالم أن يصف ذلك بالرجعية والتأخر».
ويقول السيد الشهيد في مكان آخر : «لقد استطاع الشعب الإيراني المسلم أن يشكل القاعدة الكبرى لهذا الرفض البطولي والثبات الصامد على طريق دولة الأنبياء والأئمة والصديقين، والشعب الإيراني العظيم بحمله لهذا المنار وممارسته مسؤوليته في تجسيد هذه الفكرة وبناء الجمهورية الإسلامية يطرح نفسه لا كشعب يحاول بناء نفسه فحسب بل كقاعدة للإشعاع على العالم الإسلامي وعلى العالم كله».
وبعد نجاح الثورة الإسلامية طرح الإمام الخميني(رض) مشروع دستور الجمهورية الإسلامية، وأرسل حينها برسالة مع ثلة من العلماء البارزين في لبنان إلى السيد الشهيد يسألونه عن معالم الدستور الإسلامي جاء في أحد مقاطعها «.. فالمرجو من سماحتكم بحكم ما يعرفه العالم الإسلامي كله عن تبحركم في الفقه وكل فروع المعرفة الإسلامية وقيموميتكم الراشدة على أفكار العصر أن تنفعونا بما يلقي ضوءًا في هذا المجال وتمدونا بانطباعات عما تقدرونه من التصورات الأساسية للشعب الإيراني المسلم بهذا الصدد..» وقد أعطى السيد الشهيد مجموعة مركزة من المفاهيم حول الموضوع.
وفي معرض جوابه على هذه الرسالة يقول: «فأنا أشعر باعتزاز كبير يغمر نفسي وأنا أتحدث إلى هذا الشعب الإيراني المسلم الذي كتب بجهاده ودمه بطولته الفريدة تاريخ الإسلام من جديد وقدم إلى العالم تجسيدًا حيًا ناطقًا لأيام الإسلام الأولى بكل ما زخرت به من ملاحم الشجاعة والإيمان».
هذه المواقف رافقتها حوادث أدّت إلى تضغط السلطة العراقية على الشهيد الصدر، وعلى أثرها عزم على مغادرة النجف الأشرف، وفور سماع الإمام الخميني هذا الخبر أبرق مطالبًا السيد الصدر بعدم الهجرة من العراق لحاجة الحوزة العلمية والأمة الإسلامية إليه هناك، وهذا نصّ البرقية :-
«..علمنا أن سماحتكم تعتزمون مغادرة العراق بسبب بعض الحوادث، إنني لا أرى من الصالح مغادرة مدينة النجف الأشرف مركز العلوم الإسلامية، وإنني قلق من هذا الأمر. آمل إن شاء الله زوال قلق سماحتكم. والسلام عليكم ورحمة الله؛ روح الله الموسوي الخميني».
كان رد السيد الشهيد بما يلي :-
«بسم الله الرحمن الرحيم
سماحة آية الله العظمى الإمام المجاهد السيد روح الله الخميني دام ظله
تلقيت برقيتكم الكريمة التي جسدت أبوتكم ورعايتكم الروحية للنجف الأشرف الذي لا يزال منذ فارقكم يعيش انتصاراتكم العظيمة، وإني أستمد من توجيهكم الشريف نفحة روحية، كما أشعر بعمق المسؤولية في الحفاظ على الكيان العلمي للنجف الأشرف، وأود أن أعبر لكم بهذه المناسبة عن تحيات الملايين من المسلمين والمؤمنين في عراقنا العزيز الذي وجد في نور الإسلام الذي أشرق من جديد على يدكم ضوءًا هاديًا للعالم كله، وطاقة روحية لضرب المستعمر الكافر والاستعمار الأمريكي خاصة، ولتحرير العالم من كل أشكاله الإجرامية وفي مقدمتها جريمة اغتصاب أرضنا المقدسة فلسطين. ونسأل المولى سبحانه وتعالى أن يمتعنا بدوام وجودكم الغالي. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ النجف الأشرف ــ محمد باقر الصدر ».
لجأت السلطة العراقية إلى فرض الإقامة الجبرية على الشهيد الصدر مما أقلق الإمام الخميني فأبرق إليه يستفسر عن أحواله، فأجابه السيد الصدر هاتفيًا لعدم تمكنه من إرسال البرقية نظرًا للحجز الذي مارسته السلطة ضده، وهذا نص الجواب الهاتفي :-
«سماحة آية الله العظمى الإمام المجاهد السيد الخميني دام ظله
استمعت إلى برقيتكم التي عبّرت عن تفقدكم الأبوي لي وإني إذ لا يتاح لي الجواب على البرقية لأني مودع في زاوية البيت ولا يمكن أن أرى أحدًا أو يراني أحد. لا يسعني إلا أن أسأل المولى سبحانه وتعالى أن يديم ظلكم منارًا للإسلام ويحفظ الدين الحنيف بمرجعيتكم القائدة، وأسأله تعالى أن يتقبل منا العناء في سبيله وأن يوفقنا للحفاظ على عقيدة الأمة الإسلامية العظيمة، وليس لحياة أي إنسان (قيمة) إلا بمقدار ما يعطي لأمته من وجوده وحياته وفكره، وقد أعطيتم للمسلمين من وجودكم وحياتكم وفكركم ما سيظل على مدى التاريخ مثلاً عظيمًا لكل المجاهدين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته».
ولم تكن ظروف الإقامة الجبرية المشددة للغاية قادرة على منع السيد الشهيد من أداء تكليفه الشرعي تجاه شعبه؛ فأصدر وهو في تلك الظروف الصعبة ثلاث نداءات إلى الشعب العراقي المسلم يحثهم فيها على رفض الحكم الدكتاتوري الذي فُرض على الشعب، كما واسى الشعب العراقي ــ في نداءه الثاني ــ بما يلاقيه من إذلال وقتل وإرهاب على يد السلطة الغاشمة، وأعلن السيد الشهيد في ندائه هذا بأنه قد صمم على الشهادة حيث يقول: «وأنا أعلن لكم يا أبنائي (أنني) قد صممت على الشهادة ولعل هذا آخر ما تسمعوه مني».
كما أفتى في هذا النداء بوجوب العمل على إدانة النظام الحاكم في العراق وتحدث الشهيد السعيد في آخر نداء له لأفراد شعبه مؤكدًا لهم ضروة تلاحم كل أفراد الشعب بكل فئاته وطوائفه عربًا وأكرادًا، شيعة وسنة ومؤكدًا لهم أنه يبذل كل ما في وسعه من أجل السني والشيعي، العربي والكردي على حد سواء لأنهم جميعًا أبناء الإسلام.
لقد خشي الطاغية صدام من وجود السيد الشهيد حتى وإن كان محتجزًا في بيته، لذلك اعتقل السيد المجاهد وأخته العلوية الطاهرة بنت الهدى بتاريخ 19-5-1400هـ/ 5-4-1980م، ونقلا إلى بغداد حيث نالا شرف الشهادة، ودفن السيد الشهيد في مدينة النجف يوم الأربعاء المصادف 24-5-1400هـ/ 9-4-1980م.
المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية/
الشؤون الدولية