إذا أردنا أن نأخذ الأمور بمظاهرها، فإن بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء إسرائيل ذات الخمسة ملايين نسمة، يستطيع أن يتحدى رئيس أكبر دولة في العالم. يقول له: لا. ويضع عليه الشروط. ثم يتدلل عليه ويطلب شروطا أكثر. وهو يتلقى منه الرسائل والعروض فيرفضها، أو يردها له مرهونة بمطالب جديدة.. ولكن هل هذه هي الصورة الحقيقية؟
شارک :
وإذا أردنا أن نأخذ الأمور بمظاهرها، فهناك اتصالات ثلاثية تدور بين أميركا وإسرائيل والسلطة الفلسطينية، من أجل قيام تفاهم ثلاثي يسمح باستئناف المفاوضات المباشرة، حتى إن ديفيد ميتشل الذي يسمونه بالمعجزة، الذي صنع سلام آيرلندا، يأتي بنفسه ليصنع المعجزة الجديدة، ويضع الجميع على سكة التفاوض. وقد جاء هذه المرة إلى رام الله ومعه مندوب أميركي آخر يستعين بمهاراته إذا لزم الأمر.. ولكن هل هذه هي الصورة الحقيقية؟ حول السؤال نسجل ما نعتقد أنه الجواب الصحيح، فنقول إن نتنياهو إذ يتحدى الرئيس الأميركي أوباما، فلأن أوباما لا يضغط عليه، بل هو يتبنى كل مطالبه ضد الفلسطينيين. وأوباما لا يضغط عليه، بدليل أنه يمده بالسلاح ليصبح جيشه أقوى وأقوى. إن أوباما يلاين نتنياهو، ويسايره، ويدللـه، كي يقبل أمرا واحدا فقط، وهو أن يحتفظ بكل أهدافه ضد الفلسطينيين، إنما بشرط واحد، وهو أن يواصل عملية التفاوض مع الفلسطينيين، لأن العودة إلى التفاوض مع الفلسطينيين تشكل دعما سياسيا لأوباما داخل بلده، وهو دعم يحتاجه ليقول إن سياسته الخارجية ناجحة. وعلى الرغم من هذا المطلب السهل، فإن نتنياهو يعاند ويعاند. وهنا يطرح السؤال نفسه مرة ثانية: لماذا؟ والجواب نجده في المواقف الأميركية الأخرى تجاه أحداث المنطقة، وهي مواقف تتكثف وتتجمع كما يلي: ضغط شديد على لبنان. وضغط شديد على سورية. وضغط شديد على العراق. وضغط متصل على إيران. وضغط سري وناعم على الأردن التي يريد نتنياهو المرابطة عسكريا على حدوده. وفي كل هذه المواقف فإن إسرائيل تقف في نقطة الوسط، تقف في عين الصقر كما يقولون، إذ إن مواصلة هذا الضغط الأميركي على العرب، يحتاج إلى استعمال قوة إسرائيل، وتهديد جيش إسرائيل في لحظة ما حاسمة وخطرة. ولأن نتنياهو يعرف أن أوباما يعده لهذا الأمر، فهو يعرف أيضا أنه لن يفرط به لأجل عيون الفلسطينيين. وهو لذلك يطلب ويطلب. ويرفض ويرفض. ويتمنع ويتمنع، من دون أن يخشى غضب الرئيس الأميركي. وحين يرسل أوباما مندوبه ديفيد ميتشل ليتوسط وليصنع معجزته الجديدة، فهو يعرف أن مندوبه فقد القوة على فعل ذلك، وفقد البريق الشخصي، حتى أصبح يظهر في الصور الإعلامية ضاحكا، على غرار الممثل المبتدئ، الذي يعرف أن مهمته تقتضي منه أن يبقى تحت أضواء الكاميرات، حتى لو كانت الصورة تظهره بوضوح مبتدئا وفاشلا. يأتي ميتشل إلى رام الله ليبلغ السلطة الفلسطينية فحوى المحادثات بين أوباما ونتنياهو، ولكنه لا يجري محادثات مع السلطة الفلسطينية. إنه يبلغها بما لديه من معلومات، ومن اقتراحات جرى تقديمها إلى نتنياهو، من باب أخذ العلم فقط. مثلا يأتي ميتشل ويبلغ المفاوض الفلسطيني أن نتنياهو يشترط الاعتراف بيهودية دولة إسرائيل من أجل العودة إلى المفاوضات، وتسقط هنا الجملة التي تقول إن أوباما قدم لنتنياهو الاعتراف بيهودية دولة إسرائيل، تماما كما فعل سلفه جورج بوش عبر رسالته الرسمية إلى أرييل شارون عام ۲۰۰۴. مثلا يأتي ميتشل ويبلغ المفاوض الفلسطيني أن نتنياهو يشترط الإفراج عن الجاسوس الأميركي بولارد، وتسليمه كبطل إلى إسرائيل، وهو أمر لا علاقة للمفاوض الفلسطيني به، لا من قريب ولا من بعيد، إنما ميتشل يبلغه فحسب، ربما كنوع من النميمة لا من التفاوض. وفي سياق هذا كله يقدم أوباما إلى نتنياهو صفقة ليست مغرية، بل هي أكثر من مغرية، صفقة تحالف استراتيجي جديد يضاف إلى التحالف الاستراتيجي القائم والدائم بينهما. وتقوم هذه الصفقة على البنود التالية: أولا: تجميد الاستيطان لمدة ۹۰ يوما فقط، وباستثناء مدينة القدس، مع تعهد بأن لا يتم بعد ذلك بحث موضوع تجميد جديد للاستيطان في المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية. فيسقط بذلك بند الاستيطان من المفاوضات. ثانيا: وعد إسرائيل بأن واشنطن ستستخدم حق الفيتو في مجلس الأمن ضد أي قرار يمس إسرائيل. والمقصود بذلك استخدام الفيتو ضد أي مطلب فلسطيني يعرض على مجلس الأمن بهدف إعلان الدولة الفلسطينية في حدود ۱۹۶۷، ومن جانب واحد. فيسقط بذلك المشروع السياسي المضاد الذي يهدد به المفاوض الفلسطيني. ثالثا: تأييد مطلب إسرائيل بمرابطة جيشها في منطقة غور الأردن، وبعمق ۱۴ كلم. ويعني ذلك تأييد أوباما لمطلب نتنياهو بضرورة تحقيق مطالب إسرائيل الأمنية في أي تسوية مع الفلسطينيين. رابعا: وعد إسرائيل بتسليمها أحدث الطائرات الحربية الأميركية، بما يزيد من قوتها العسكرية، ومن أجل الهدف الأميركي الدائم، بأن تبقى إسرائيل قوة تستطيع تهديد العرب جميعا. وعلى الرغم من كل هذه الإغراءات، فإن نتنياهو لا يزال يرفض ويتدلل، وهو يرغب، من دون أن يقول، في أن ينال كل هذه العروض من أوباما، من دون أن يجمد الاستيطان. أو من أجل أن ينال موافقة أوباما على خدعة إسرائيلية جديدة، تقول بتجميد الاستيطان في المناطق التي ستنسحب منها إسرائيل فقط، أي أن لا يشمل التجميد المستوطنات التي سيتم فيها تنفيذ مبدأ تبادل الأراضي . وهذه المستوطنات هي التي تقع في منطقة القدس، التي تحيط كلها بمدينة القدس، وتسهل على إسرائيل الاستيلاء عليها وإعلانها مدينة يهودية، بل وإعلانها عاصمة «أبدية» لإسرائيل. ويجري كل هذا بينما يتجاهل أوباما المصالح العربية، ويتجاهل الحقوق الفلسطينية. ربما لأن العرب لا يطالبون بشيء. أو ربما لأن العرب لا يهددون بشيء. لا يهددون مثلا بتفعيل المقاطعة الاقتصادية العربية لإسرائيل من جديد. لا يهددون مثلا بتعليق العلاقات الدبلوماسية القائمة مع إسرائيل. لا يهددون مثلا بإزالة «مبدأ» تبادل الأراضي من على طاولة التفاوض الفلسطيني. لا يهددون مثلا بوقف التعاون الأمني القائم فلسطينيا وعربيا مع إسرائيل. وفي ظل هذا كله، يعرض أوباما على نتنياهو، ويتدلل نتنياهو على أوباما، وتستمر لعبة المفاوضات وكأنها استراتيجية دولة عظمى، وهي في الواقع استراتيجية لا وجود لها.