جعل الاستعمار البريطاني جنوبَ السودان إقليماً مقفلاً في قانون أصدره في العام 1922، وأشعل أوّل موجات التمرد هناك قبل الاستقلال بعام.
شارک :
هل سينفصل أهل جنوب السودان في دولة لهم نتيجة تصويتهم في الاستفتاء الجاري، أم نتيجة مؤامرةٍ أميركية غربية إسرائيلية طالما استهدفت السودان؟
قبل محاولة الإجابة عن السؤال، يحسُن التأشير إلى بديهيّة أنّ التآمر حاضر في التاريخ والراهن، وأنّ الدول تتوسله في أثناء الخصومات والعداوات، وأنّه ينجح في البيئات التي تتوفر فيها تربة مهيأة لنجاحه، أي في المجتمعات والدول الرّخوة غير المحصّنة تماماً، ويسهل فيها عملُ المتآمرين ونشاطهم.
وإذ يستسهل كثيرون الحديث عن استهداف السودان في مؤامرات غير قليلة، لإبعاده عن العروبة والإسلام في المجال الإفريقيّ الذي ينتسب إليه، وإذ يستطيب أصحاب هذا القول اعتبار المأساة الإنسانية والأمنية في دارفور تمثيلاً لفعل تآمريّ خارجيّ، فإنهم لا يعدَمون شواهد تُدلّل على ذهابهم إلى أنّ مسألة جنوب السودان، تاريخياً، نتاج استهداف مؤامرة طويلة علی السودان، ستنجم عنها الدولة التي يُصوّت الجنوبيون على قيامها. يقول هؤلاء هذا الكلام، من دون إمعان النّظر في أنّ السودان ظلّ منذ استقلاله في العام ۱۹۵۶، فضاءً رحباً لاستقبال كلّ صنوف التآمر على كيانه وشعبه، بسبب إخفاقِ نُخبه في القيادة والحكم والإدارة والتوجيه في إبداع صيغٍ قادرةٍ على تحصينه، وفي توفير أسباب المناعة التي لا تجعل تأثيرات الخارج على قبائله وجهاته أقوى من نفوذ الدولة المركزية.
جعل الاستعمار البريطاني جنوبَ السودان إقليماً مقفلاً في قانون أصدره في العام ۱۹۲۲، وأشعل أوّل موجات التمرد هناك قبل الاستقلال بعام. وأطلق تنظيمٌ في الجنوب في العام ۱۹۶۵ أول حديثٍ عن الانفصال، ثم كانت الحروب متقطعةً مع الجنوب، إلى أن انفجرت في العام ۱۹۸۳، وقضى مليونان فيها حتى انتهائها في اتفاق العام ۲۰۰۵ الذي نصّ على استفتاء هذه الأيام.
ولم تكن قيادة الحركة الشعبية لتحرير السودان التي خاضت المواجهات المسلحة مع الشمال ترفع شعار الانفصال مطلباً طوال سنوات الحرب، وإن ظلت تطرح في مفاوضات توالت شرط حقّ تقرير المصير، وكانت رؤيتها، كما كان جون قرنق يقول، تتطلَّع إلى سودان علمانيّ موحد، غير أنّ موجات الكلام عن الانفصال غلبت غيرها لاحقاً، وصار الاستقلال في دولة منفصلة مطلباً معلناً في أجنحةٍ في الحركة، ولقطاعات عريضة من أهل الجنوب، ما يبدو أنّ الرئاسة السودانية لم تتوقعه حين ذهبت إلى بروتوكول ۲۰۰۳ ثم اتفاقِ ۲۰۰۵، اللذين تبدّى فيهما جهدٌ أميركيّ ملحوظ.
بوضوح، نشبت الحرب في العام ۱۹۸۳ بعد تبنّي جعفر النميري الشريعة الإسلامية في القوانين، وتمّ اتفاق على إلغاء ذلك في العهد الديمقراطي، بين قرنق وعثمان الميرغني في العام ۱۹۸۸، حدث أنّ البرلمان السوداني كان يعتزم بحثه، غير أنّ الانقلاب العسكريّ الذي قام به الرئيس عمر البشير، بعون أيديولوجي وتنظيمي من حسن الترابي، أوقف ذلك التوجه. هذه واحدةٌ من أهم القضايا شديدة الحساسية التي عزّزت تحبيذ بعض أهل الجنوب دولةً خاصّةً بهم، فضلا عن سياساتٍ غير قليلة كانت تؤدي إلى طمس التنوع الذي يمنحه أهل جنوب السودان لبلدهم. وموجز القول هنا أنّ إخفاق السودانيين المريع، من أهل القرار والحكم، طوال عقود ما بعد الاستقلال، هو ما أودى بأهل الجنوب إلى خيار دولة منفصلة، وحين طلب قائدٌ لإحدى حركات تمرّدهم الأولى عوناً إسرائيلياً بعيد العام ۱۹۶۷، لمواجهة الأعداء العرب، كان له ما أراد من أسلحة، ثم توالت مثلُها لاحقا لغيره. نُؤشّر إلى هذا الأمر، وثمّة غيره، لتأكيد وجود المؤامرة التي كانت تنتعش بسبب رداءات وفيرة في الإدارة السياسية والتنموية في الخرطوم، نظنُّها التي ستجعل نسبة المصوتين على الانفصال في الاستفتاء الجاري قياسيةً، ومُحرجةً للعرب في كلّ مطرح.