الإسلام يريد لنا أن يكون حوارنا وجدالنا مع بعضنا البعض، منطلقين من الرّغبة في الوصول إِلى الحقيقة واكتشاف المصلحة، ويريد للإنسان عندما يفكِّر مع الآخر، أو عندما يحاوره، أو يجادله، أن تكون نيَّته نيّةً إصلاحيَّة بعيدةً عن النيَّة العدوانيّة .
شارک :
المرجع الفقيد السيد محمد حسين فضل الله
كُنّا نتحدَّث في بداية هذه المحاضرات عن الشّورى، وهي أن يبادر إنسانٌ إِلى نُصح آخر، وتقديم المشورة له في بعض القضايا الَّتي تهمّه وترتبط بأوضاعه العامَّة والخاصَّة، وقد انتهى بنا الحديث إلى أنَّ هناك عنواناً آخر قد يقترب من الشّورى، وهو عنوان الجدل، عندما ينطلق الإنسان ليقدِّم فكره إِلى النَّاس الآخرين، ليهديهم إِلى الحقّ وإلى الله من خلال هذه الفِكرة، وهذا ما جرى عليه الأنبياء والأولياء، عندما كانوا يُبلِّغون رسالاتهم إِلى النّاس في عمليَّة نُصحٍ ومشورة، تماماً كما لو كانوا يُشيرون عليهم باتّباعِ هذا الخطِّ الّذي هو خطّ الهُدى.
حديث الفكر المشترك
وقد ركَّز الله سبحانه وتعالى على أن يكون أسلوب الدَّعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالَّتي هي أحسن، حتى إنَّه أمرنا بأن نجادل أهل الكتاب بالّتي هي أحسن، لنبحث معهم القضايا على أساس مواقع اللِّقاء الَّتي تنفتح بعد ذلك على مواقع الخلاف، ليجري الحوار بيننا وبينهم حولها. وقد تحدَّثنا كثيراً في المحاضرات السَّابقة حول هذا الموضوع.
والفكرة الإسلاميَّة أساساً تنطلق من أنَّ النَّاس عندما يختلفون في القضايا، وعندما يتحيَّرون في الأمور، فإنَّ من مسؤوليَّتهم عن أنفسهم وعمّا يحقّق لهم المصالح الكُبرى في حياتهم، أن يتحدَّثوا مع بعضهم البعض ويتشاوروا حول هذه الأمور، لأنَّ حديث الإثنين أو الثلاثة يمكن أن يصل بالإنسان إِلى ما هو المصلحة وإلى ما هي الحقيقة في هذا المجال، بينما إذا كان الإنسان يحدِّث نفسه ولا يتحدَّث مع غيره، فقد يُخطئ وقد لا يلتفت إلى الخطأ. وهذا النَّوع من الحديث المشترك بين إنسانٍ وآخر، يُطلَق عليه في بعض المصطلحات الغربيَّة عنوان التَّفكير بصوتٍ مسموع، لأنَّ الإنسان عندما يفكِّر لا يتكلَّم، ولكن عندما يفكِّر مع الآخر، فإنَّ الوسيلة للتّفكير مع الآخر، هي أن يتحدَّث كلٌّ منهما، ليكون حديثهما حديث الفكر المشترك.
والإسلام يريد لنا أن يكون حوارنا وجدالنا مع بعضنا البعض، منطلقين من الرّغبة في الوصول إِلى الحقيقة واكتشاف المصلحة، ويريد للإنسان عندما يفكِّر مع الآخر، أو عندما يحاوره، أو يجادله، أن تكون نيَّته نيّةً إصلاحيَّة بعيدةً عن النيَّة العدوانيّة، لأنَّ بعض الناس ربما يجادلونك ليقمعوك أو ليسقطوك، أو يجادلونك جدالاً عدوانيّاً، وهذا ما نتحدَّث عنه في هذا اللّقاء.
الجدال العدوانيّ
ويحدِّثنا القرآن عن فريقٍ من النَّاس ممّن يمارسون الجدال مع الآخرين بطريقة عدوانيَّة، بحيث يتحرّكون من خلال عناصر الإثارة لا العقل. وهذا هو قوله تعالى: {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنذِرُوا هُزُواً}؛ فهؤلاء يستهدفون الحقَّ بمحاولة إثارة أفكار الباطل الَّتي لا ترتكز على أيّة حقيقةٍ فكريّة، أو أيّة موضوعيّة عقليّة، من أجل أن يدحضوا الحقَّ بأساليب السّخرية والاستهزاء، مما لا يملك الدّاعية المسلم معه أيّة فرصة للدّخول معهم في قضايا الفكر، وفي امتدادات الحقّ، لأنّهم لا ينفتحون بأسماعهم على ما يسمعون، ولا بأبصارهم على ما يقرأون، الأمر الَّذي يجعل الجدال معهم جهداً ضائعاً لا يحقِّق أيّة نتيجة إيجابيَّة لمصلحة الوصول إلى الحقيقة بأسلوب الحوار.
إنَّ المنهج القرآنيَّ لا يمنع الَّذي يؤمنون بالباطل من أن يدخلوا في تجربة الجدال ضدَّ الحقّ، ولكنّه يريدُ منهم أن يحترموا طبيعة الجدال، بالالتزام بعناصره الفكريَّة وثقافته الموضوعيَّة، ليكون الحوار فكرةً تواجه فكرةً، ودليلاً يعارض دليلاً، وبرهاناً يدحض برهاناً، من أجل الوصول إلى قاعدةٍ مشتركة في الموضوع الّذي يقع محلاًّ للاختلاف.
إنَّ هُناك الكثير من الاتجاهات والأفكار الموجودة اليوم في العالم، فكيف نستطيع أن نواجهها؟ وما هو الأسلوب الّذي ينبغي أن نتَّبعه معهم؟! أنمنعهم ولا نسمح لهم بأن يدخلوا معنا في حوارٍ وفي جدال، أم نعطيهم الحريَّة في هذا المجال؟
القرآن كتاب الحوار
إنَّ القرآن الكريم هو كتاب الحِوار، وقد أعطى المشركين أن يقدِّموا كلَّ ما عندهم، ونقل لنا ما كانوا يثيرونه ضدَّ الرَّسول(ص) والأنبياء، وهذه هي عظمة القرآن الكريم، فمن أين عرفنا أنهم كانوا يقولون عن الأنبياء مثلاً بأنهم مجانين؟! ومن الذي خلَّد لنا القول بأنهم كانوا يقولون للنبيّ(ص) عن القرآن: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً}، {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ}؟! ومن أين عرفنا أيضاً أنهم كانوا يقولون عن النَّبيّ إنّه شاعر وإنّه ساحر، من الّذي خلَّد لنا هذه الأشياء؟ إنّه القرآن، وقد خلَّدها لنا لنعرف كيف واجه النبيّ هذا المجتمع الّذي كان يُطلق هذه الأفكار الّتي لم تكن أفكاراً علميَّة ولا موضوعيّة ولا ثقافيَّة، وكان النّبيّ يردُّ عليها، وكذلك القرآن.
لذلك، فإنَّ موقفنا اليوم مع أهل الباطل هو موقف القرآن، نستمع إليهم ونردّ عليهم ونناقشهم، ونحاول أن ندخل في جدالٍ معهم، ولكن بشرط أن يكونوا موضوعيّين، أي أن لا يتحركوا على أساس عنصر الإثارة أو عنصر السّخرية أو الاستهزاء.
الجدال مع الجاهلين
ويتحدَّث القرآن عن نموذجٍ من الناس ممّن يأخذون بأسباب الجدال من دون أن يملكوا ثقافة الموضوع الَّذي يجادلون فيه، بل إنّهم يتحرّكون من مواقع الجهل الّذي يسيطر على ذهنيّاتهم التي لا تحمل أيَّ نوعٍ من أنواع العلم. وهذا ما جاء في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ}، وقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ}، فهؤلاء الَّذين لا يؤمنون بتوحيد الله ورسالاته، ولا يلتزمون بعبادته وطاعته، لا ينطلقون في جدالهم مع الرساليّين من الأنبياء وغيرهم، من أيّة وسيلةٍ لدراسة المسألة في معطياتها الفكريّة، فهم لا يملكون الهدى الَّذي يضيء لهم طريق الحقّ، ولا ينفتحون على العلم الّذي يثبِّت لهم الحقائق، ولا يرجعون في مصادرهم الثقافيّة إلى كتابٍ مشتملٍ على وسائل الإنارة للقضايا المثارة في حركة الجدل، ولكنَّهم يتّبعون في التزاماتهم الجدليَّة وسلوكيّاتهم المضادَّة، الشَّياطين المتمرّدين على الله، المتحرّكين في اتّجاه الباطل.
إنَّ أمثال هؤلاء لا يتطلّبون الحصول على قاعدة المعرفة الّتي تفتح لهم أبواب التفكير الَّذي يلتقي مع الآخر الّذي يلتزم الإيمان، ليستمعوا إلى وجهة نظره في عمليَّة بحثٍ ومناقشة، أو في عمليَّة إشارة واستشارة، لأنّهم أغلقوا عقولهم عن الحركة الفكريّة، تماماً كالأشخاص الَّذين يملكون عقولاً لا يفكِّرون بها، وآذاناً لا يسمعون بها، وأعيناً لا يُبصرون بها، بل هم في موقع الجمود الثقافيّ والرّوحيّ والحركيّ، لا يتقدَّمون إلى الأمام خطوةً واحدة للتعرّف إلى آفاق الفكر الآخر أو الموقف الآخر.
ومن الطَّبيعيّ أنَّ مثل هؤلاء لا يلتقون مع النَّاصحين في موقع الشّورى التي يطرح فيها الإنسان وجهة نظره، ليستمع إلى وجهة نظر الآخر الَّذي قد يفتح له نافذةً على الخطأ في تفكيره، والصَّواب في تفكير الآخر.
صورة قرآنيَّة من الحوار
وفي نهاية المطاف، ننقل نموذجاً للحوار ممّا جاء به القرآن، بين شخصٍ لا يخضع للالتزام بالإيمان بالله في نظرته إلى الأمور، انطلاقاً من استغراقه في المال الَّذي يملكه، والّذي يخيَّل إليه من خلاله أنّه يقف في المرتبة العليا من القيمة، وأنَّ الله سوف يرفع درجته عنده بسبب موقعه الماليّ، وشخصٍ لا يملك المزيد من المال، ولكنَّه يملك الوعي والانفتاح على الله في إيمانه وثقته. وهذا ما جاء في سورة الكهف في قوله تعالى: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَراً * وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنقَلَباً}، فإنَّنا نلاحظ أنَّ هذا الرّجل قد استغرق في جنّته الّتي تمثِّل رصيداً ماليّاً كبيراً منتجاً، يدرّ عليه المال في ثمراتها الزراعيّة، حتى إنّه تصوَّر ـ في استغراقه الأعمى ـ أنَّ هذه الجنّة الدنيويّة خالدة لا فناء لها. ثمّ تطوَّر الأمر في خياله، في تصوّر جاهل، بأنَّ الدنيا سوف تبقى في خطِّ الخلود، ليخلد فيها، فلا تنتهي عندها حياته.
ثمَّ استدرك الأمر في احتمالات قيام السَّاعة الّتي يتحدَّث بها المؤمنون، فاعتبر أنَّ ما أكرمه الله به من المنـزلة الماليَّة الرّفيعة في الدّنيا، سوف يحصل على خيرٍ منها في الآخرة، لأنَّ الكرامة في الدنيا تجتذب الكرامة في الآخرة.
ولكنَّ صاحبه المؤمن الّذي كان يحاول هدايته وتقديم النّصيحة له، تحدَّث له عن الإيمان بالله الّذي يشرق في عقل الإنسان وروحه، من خلال تفكير الإنسان في خلق الله له من التراب، وفي تطوّر الخلق الّذي وصل به إلى حالة الرّجولة، ليجعله ذلك يفكِّر في هذه الحقيقة الإيمانيَّة التَّوحيدية، في الإيمان بالله الواحد الّذي لا شريك له: {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً * لَّكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً * وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِن تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً * فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِّنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً * وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً}
.
ثمّ بدأ بأسلوب الوعظ، بأنَّ عليه أن ينظر إلى جنَّته بأنّها نعمة من الله عليه، وأنّ كلَّ ما تشتمل عليه، في أشجارها وثمراتها، لم ينطلق من قوّته الذاتيّة ومعرفته الشخصيَّة، بل من خلال قوّة الله الّذي منح كلّ شيءٍ قوّته ونموّه وإنتاجه. أمَّا احتقارك لي بأنّني الأقلّ منك مالاً وولداً، فإنّي أختلف عنك بأنَّني أملك الثِّقة بالله الَّذي هدى الإنسان، وأغدق نعمه عليه وعلى الكون كلِّه، ما يجعلني أفكِّر في أنَّ الله سوف يمنحني خيراً من جنَّتك، بلطفه ورحمته، وربّما ينـزل البلاء عليك في إبادة جنَّتك.
وهكذا انتهى المشهدُ الحواريّ، بإحاطة عذاب الله بثمر هذا الغنيّ المستعلي، وبإحساسه بالوحدة، فلا ناصر له من هؤلاء الّذين كانوا يتزلَّفون إليه، فرجع إلى نصيحة صاحبه الفقير الَّذي تحدَّث معه حديث النّاصح المشفق، واتّخذ من علاقته به دور المستشير له، بأن يفكِّر بواقعيَّة في طبيعة الأمور، ليصل إلى الإيمان بتوحيد الله الَّذي هو سرّ الوجود، والّذي هو خلف كلِّ شيء، ووليّ كلِّ نعمة، وصاحب كلِّ حسنة، وأنَّ ما يحصل عليه الإنسان من متاع الدّنيا، هو لطفٌ من ألطافه، ونعمةٌ من نعمه، الأمر الَّذي يفرض عليه الانفتاح عليه، والرّجوع إليه في كلّ أموره.
وهكذا، يصوِّر لنا القرآن الحوار بين فريقين من النّاس، في أسلوبٍ متنوّع، قد يعنف في حالة، ويرقّ في أخرى، ليكون المناخ السَّائد بينهما هو الوصول إلى الحقيقة، في أسلوب الشّورى الهادئ، والجدل الَّذي يلتقي مع الشّورى في التَّفكير المشترك، بالأسلوب الَّذي يبتعد عن العنف والقوَّة، لينتهي إلى الانفتاح على النَّتائج الحاسمة الهادئة في الوصول إلى الإيمان.